الاثنين، 27 يوليو 2009

دراسة تشكك في منهجية وعلمية القمني

دراسة تشكك في منهجية وعلمية القمني:


قراءة نقدية لكتابات القمني عن القرآن(1-2)
منصور أبو شافعي / 20-07-2009
هذه الدراسة تضع شكًا معرفيا في منهجية وعلمية د.سيد القمني، ففي كتابات عديدة هاجم القمني من أسماهم بـ"المتفقهين من أهل شئون التقديس المستفيدين من الدين في مواقعهم الاجتماعية"، والذين يرفعون القاعدة التليدة: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، "لتشغيل القرآن ورب القرآن حسب الحال المرغوب، ينتهزون به النهز ويستنبطون منه حسب الطلب شهادات الشرعية للمواقف السياسية المتقلبة من النقيض إلى النقيض".
وأكد أن الذي "أعطى رجال الدين هذه الفرص والنهز" التي مكنتهم من "اختطاف القرآن وتحنيطه" هي "طريقة جمع المصحف التي اتبعتها اللجنة التي شكلها الخليفة عثمان بن عفان برئاسة زيد بن ثابت".
وأخذ الدكتور على هذه اللجنة أنها "لم تراع الترتيب الزمني للآيات، والأحداث، ولا جمعت الآيات مثلا حسب نوع الموضوع كجمع الآيات القانونية معا، والعبادية معا، والتسبيحية معا، والإرشادية معا".
إنما اتبعت (اللجنة) أسلوبا يبدأ بأطول السور ويتدرج حتى ينتهي بأقصرها، علما أن قصار السور كانت هي الأولى زمنا، فتجد سورة مدنية تعقبها مكية، تعقبها مدنية، وتتضمن السورة الواحدة خلطا بين ما هو مكي وما هو مدني، وإذا المنسوخ يتلو الناسخ، وآيات تبحث في مواضيع لا رابط بينها.
مما كان سببا للتخبط وسوء الفهم عند المسلم العادي، ووسيلة للانتهازية بسوء النية عند القائمين على شئون التقديس في بلادنا الذين (كما يقول الدكتور) يعلمون يقينا أن ترتيب السور والآيات كان عمل البشر ولا يتمتع بأية قدسية، ولم تذكر كتب السير أن الوحي نزل على زيد بن ثابت ولجنته ليرتبوها (الآيات والسور) على شكلها الحالي.
وهكذا ظل الحال دون أي محاولة لإعادة النظر واتباع طريقة علمية في ترتيب المصحف عن قصد مبيت، وتم إكساب الشكل قدسية المضمون مع إغلاقه بالضبة ووضع المفتاح بيد فقهاء السلطان".
انتهاء صلاحية القرآن
ويطالب الدكتور بـ"رفع رجال الإكليروس الإسلامي يدهم عن الإسلام، والتوقف عن التحريم والتكفير، حتى يمكن إعادة النظر والترتيب والتصويب دون خوف اتهامات المروق والتخوين".
ويضيف: "على المسلم المؤمن قبول القرآن (ليس كما هو في المصحف)، وإنما كما كان في تاريخيته، تلك التاريخية التي يرفضها الإكليروس ليظل دينا خارج الزمان والمكان، وخشية الاعتراف بتطوره مع المتغيرات (...) مما قد يؤدي إلى إنكار المصدر الإلهي للقرآن، كما لو كان أحفظ عليه من الله (!) إضافة إلى الحرص التقليدي العجيب على مبدأ صلاحية القرآن لكل زمان ومكان، وهي التي تعني عندهم تثبيته وتحنيطه وإجبار الواقع المتغير على الاتفاق مع القرآن وهو ثابت!!
"وقد وضح لكل ذي عقل -كما يقول الدكتور- أن الواقع يجهر بانتهاء هذه الصلاحية بهذا المفهوم على يد رجال الدين لعدم تحركها مع الزمن... (والتي) تعلم الناس الكذب بالدين وللدين!!
لذلك فقد انتهى الدكتور إلى "أن الصلاحية الحقة تكون بفك لفائف التحنيط عن المقدس ليتكيف مع الواقع -وهو درس الإسلام الأول للأوائل- وليس العكس.
فقانون الحياة والكون هو التغير الدائب الذي لا يمكن لأحد إيقافه عند نقطة زمنية لا يريد أن يريم عنها حراكا، ولا سبيل سوى أن نتحرك عن ترتيب ما بأيدينا (من قرآن) وفهمه (بعد إعادة ترتيب آياته وسوره) وفهم ظرفنا الآني.
ورغم أن د. القمني وصف ما قاله -ونقلناه- بـ"الحقائق" ووصف من سيقبلها بـ"المسلم العارف" و"المسلم المؤمن"، ووصف من "ستزعجه" هذه "الحقائق" (القمنية) بالذي "يستخدم الإسلام وسيلة للكسب، والمناصب، والوجاهة، والقرب من السلطان، أو اقتناص هذا السلطان" (
1).
وهي -كما نرى- لغة أقل ما توصف به أنها غير علمية، ورغم إمكانية رد ما قاله د. القمني -ونقلناه- إلى أصول استشراقية قصد أصحابها -بما قالوه- التشكيك في إلهية النص القرآني ذاتهن فإن بحثي أوصلني إلى معلومات شككتني بقوة في جدية دكتور القمني كباحث وفي علمية كتاباته، وما توصلت إليه (سواء في كتابات سابقة للأسف تهرب الدكتور من مناقشتها، أو في الكتابات الحالية) يضطرني -لقبول أو رفض ما قاله د. القمني عن حتمية إعادة النظر في جمع وترتيب آيات وسور المصحف- إلى مراجعة مدى جدية وعلمية موقفه (المادي) من القرآن ذاته، وهل هو نص إلهي مقدس أم هو نص بشري يمكن إرجاع لغته ومضمونه إلى منابع بشرية؟
وهذا يحتاج منا إلى بذل كل ما نستطيعه من جهد، ويحتاج من د. القمني لممارسة حقه الكامل في الاختلاف مع ما سنتوصل إليه من نتائج نعتقد أنها "صواب يحتمل الخطأ"، ويحتاج من القارئ بعض الصبر حتى نتواصل مع ما سبق.
القمني.. والقرآن
ولنبدأ في دراسة موقف د. القمني من "القرآن"، أرى -لنقترب كثيرا من عمق هذا الموقف- أن نبدأ بتأمل ما كتبه هذا الدكتور في كتابه "الحزب الهاشمي وتأسيس الدولة الإسلامية" عن "وعي عبد المطلب بن هاشم السياسي وبعد نظره وحسه القومي في قيادته وفدا إلى اليمن برفقة ابن أخيه أقية بن عبد شمس -قبل النزاع المشار إليه- وحلفائه أبي زمعة جد أمية بن عبد الله بن أبي الصلت -وسيكون لأمية هذا شأن- وخويلد الأسدي بن أسد بن عبد العزى، ومن الواجب ملاحظة امتداد ذلك التحالف في زواج حفيد عبد المطلب (النبي محمد) من السيدة خديجة بنت خويلد الأسدي"(
2).
ولأن د. القمني -على غير الحقيقة- وصف طبعات كتابه (خصوصا طبعته في مجلد "الإسلاميات") بـ"المنقحة"، والمعروف أن التنقيح هو "التشذيب والتهذيب" و"نقح الكلام: فتشه وأحسن النظر فيه، وقيل: أصلحه وأزال عيوبه"(
3).
فمن الواجب ملاحظة:
أولا: أن ما قاله د. القمني وكرره عن علاقة عبد المطلب بن هاشم بأمية بن عبد شمس "ابن أخيه أمية" وعن تبريره لذهاب أمية مع عبد المطلب إلى اليمن بـ"قبل النزاع المشار إليه" هو -بدون تحامل- قول لا يصدر عن باحث عاقل؛ لأن الثابت ليس فقط في "سجلات الإخباريين" التراثية بل في كتابات د. القمني نفسه أن عبد شمس بن عبد مناف (والد أمية) هو "أخو" (أي شقيق) هاشم بن عبد مناف (والد عبد المطلب) وأن "النزاع المشار إليه"، الذي نراه مجرد أسطورة ويلح د. القمني على تحويله لحقيقة، كان -كما قال د. القمني نفسه- بين "أمية وعمه هاشم".
ويصر الدكتور على دقة وصواب ما قاله وكرره، فهل ننتظر منه حذف وقائع الصراع بين هاشم وابن أخيه أمية من كل كتاباته، وإسقاط شخصية هاشم من التاريخ ليحل محله ابنه عبد المطلب في "عمومته" لأمية؟
وهل ننتظر منه نقل "نزاع" و"صراع" و"ثورة" أمية من زمن هاشم "الخرافي" ليوضع في زمن عبد المطلب "الحقيقي" وليكون مع وضد عبد المطلب و"بعد" رحلته "القومية" إلى اليمن التي كانت "بعد مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنين" كما اتفقت السجلات الإخبارية "التي روت خبر الرحلة"؟
أم أن هذا الدكتور وتبريره دقة وصواب ما قاله وكرره سيعيد "تنقيح" تاريخ هذه الرحلة بجعل عبد المطلب شقيقا لأبيه هاشم ليكون أيضا شقيقا لعمه عبد شمس، وبهذا "التنقيح" يكون عبد المطلب عما لأمية؟
أم أن الدكتور سيعيد "تنقيح" تاريخ هذه المرحلة بتجاهل ما قاله "هو" في نفس الكتاب عن موت هاشم وتركه "لولده عبد المطلب (ابن سبع سنوات وقيل ثمان) ينمو ويربى ويرضع الفروسية بين أخواله" في يثرب"(
4)!!
والحقيقة ولأن د. القمني في نفس كتابه -وبعد رؤيته الخارقة- أمات عبد شمس قبل هاشم والثابت أنه مات بعده، وبنفس قدراته الخارقة جعل نزاع أمية مع عمه هاشم "بعد رحيل والده عبد شمس عن الدنيا"، والثابت في "سجلات الإخباريين" أن نزاع أمية كان في حياة والده (
5) فأنا أكتفي بوضع علامة تعجب!!
ثانيا: أن د. القمني في حديثه عن الوفد القرشي الذي -كما قال- قاده عبد المطلب إلى اليمن تعمد نقل هذه الرحلة "القومية" بدون توثيق، وهذا التعمد غير المبرر علميا أغرانا بمراجعة الخبر في "سجلات الإخباريين" التي أخبرتنا بأن "خويلد الأسدي و"أبو زمعة" لم يكونا في الوفد القرشي المكون من عبد المطلب بن هاشم، وأمية بن عبد شمس، وعبد الله بن جدعان، وأسد بن عبد العزى، ووهب بن عبد مناف، وقصي بن عبد الدار(
6).
وأخبرتنا أيضا بأن هذا الـ"أبو زمعة" لا وجود له في آباء أمية بن أبي الصلت عبد الله بن أبي ربيعة بن عوف بن عقدة بن عزة بن عوف بن ثقيف(
7).
المؤامرة الهاشمية
وحتى لا نطيل فنحن لن نجعل من هذه النقطة محلا لخلاف، فليكن "أبو زمعة" جدا لأمية، و"خويلد" هو رفيق الرحلة إلى اليمن -كما يريد د. القمني- بل ليكونا حليفين لعبد المطلب.
لأن د. القمني يريد أن يجمع الثلاثة: عبد المطلب (جد النبي)، وخويلد (والد السيدة خديجة "الأرملة الثرية") وأبو زمعة (جد أمية "الشاعر") في لقاء واحد بقصد الدليل على وجود تحالف بين الثلاثة، وليتمكن من مد هذه العلاقة إلى الخلف الثلاثة (محمد- خديجة-أمية) وتحميل الحفيد الهاشمي (محمد) مسئولية تغيير جوهرها من علاقة تحالفية إلى علاقة تكتيكية وأحيانا تآمرية.
فعند د. القمني أن الحفيد الهاشمي الفقير وجد أنه ليبدأ في تنفيذ خطة جده "المرسومة والمدروسة والمنظمة"، والتي من وسائلها الدين (...) والمال كان يحتاج إلى مصدر "ثروي" يوفر له "الوقت الكافي والاطمئنان النفسي للانصراف من السعي وراء الرزق إلى التفكير في شئون قومه السياسية والدينية"(
8).
فتزوج "الأرملة الثرية التي تكبره بنحو خمس عشرة سنة" (خديجة بنت خويلد) بعد خداع والدها وتغييبه عن الوعي (بالخمر) لانتزاع موافقته التي تنكر لها بمجرد استيقاظه، ووصل الأمر بالأب (المخدوع) إلى حد التظاهر ضد هذا الزواج في شوارع مكة، وبثقة -وتحديدا لتأكيد الخداع المحمدي- أشار الدكتور (الماركسي) إلى نقله لهذه المعلومة عن كتاب "البداية والنهاية" لابن كثير!!
وبالفعل.. بالرجوع إلى مرجع د. القمني وجدنا هذه المعلومة (الرواية)، ولكن ما وجدناه أيضًا وأخفاه د. القمني بقصد أن هذه رواية ضمن روايات "جمعها" ابن كثير ليرجح عليها رواية أخيرة هذا نصها، قال المؤملي:
المجمع عليه أن عم خديجة عمرو بن أسد (وليس والدها) هو الذي زوجها محمدا، وهذا (في رأي ابن كثير) هو الذي رجحه السهلي وحكاه (رواه) عن ابن عباس وعائشة قالت: وكان خويلد مات قبل (حرب) الفجار"(
9). أي قبل زواج محمد من خديجة بخمس سنوات.
ونحن لن نسأل الدكتور عن علة امتناعه عن الإشارة إلى وجود روايات أخرى؟ أو عن المانع العلمي الذي حال بينه وبين القيام بواجبه كباحث إزاء الروايات المتناقضة؟ لأن الدكتور في تقديري أراد تثبيت رواية الخداع على أنها رواية وحيدة ومتواترة، ولا يوجد ما يناقضها ليسهل عليه (كماركسي) الإيحاء بتخفف الحفيد الهاشمي من العبء الأخلاقي، والذهاب بعقولنا -كقراءة له- إلى أن هذا الحفيد بعد عثوره على المصدر "الثروي" في "الأرملة الثرية" (بنت خويلد حليف عبد المطلب ورفيقه في رحلة اليمن) بدأ "يتابع خطوات جده" لتحقيق نبوته بالوحي، وهي -عند د. القمني- خطوات قادت الحفيد إلى عثوره على "مصدر شعري" للوحي في شعر أمية بن أبي الصلت (حفيد أبو زمعة حليف عبد المطلب ورفيق رحلته إلى اليمن).
القرآن مسروق
وهذا يقودنا إلى قراءة أهم ما ساقه د. القمني للتدليل على صواب موقفه "المادي" عن القرآن:
ونبدأ بما قاله عن صاحب "المصدر الشعري": "هو أمية بن عبد الله بن أبي الصلت الذي تصله أمة رقية بنت عبد شمس بن عبد مناف ببيت عبد مناف بن قصي"(
10).، وجده أبو زمعة حليف عبد المطلب بن هاشم.
وبجانب النسب والتحالف استطاع "رغم تنافس الحنفاء" أن يحتل مكانة بارزة كواحد من "تلامذة الحنيفية الكبار" بعد عبد المطلب "أستاذ الحنيفية الأول" وزيد بن عمرو بن نفيل الذي "يعد ثاني الرواد الحنيفين أثرا وأكثرهم خطرا بعد عبد المطلب".
و "حرم (أمية) على نفسه الخمر وتجنب الأصنام، وصام والتمس الدين، وذكر إبراهيم وإسماعيل، وكان أول من أشاع بين القرشيين افتتاح الكتب والمعاهدات والمراسلات بعبارة:
باسمك اللهم -استعملها النبي محمد ثم تركها واستعمل بسم الله الرحمن الرحيم- وقد روى الإخباريون قصصا عن التقاء أمية بالرهبان وتوسمهم فيه أمارات النبوة وعن هبوط كائنات مجنحة شقت قلبه ثم نطفته وطهرته تهيئة لمنحه النبوة"(
11).
و"يعتبر أمية أحسن الحنفاء حظا في بقاء الذكر، فقد بقي كثير من شعره، وحفظ قسط لا بأس به من أخباره، وسبب ذلك (ينقل د. القمني عن د. جواد علي بتحريف!!) هو بقاؤه إلى ما بعد البعثة واتصاله بتاريخ النبوة والإسلام اتصالا مباشرا وملاءمة شعره بوجه عام لروح الإسلام، برغم أنه حضر البعثة ولم يسلم، ولم يرض بالدخول في الإسلام؛ لأنه يأمل أن تكون له النبوة ويكون مختار الأمة وموحدها، ولذلك برز كنموذج للاستقامة والإيمان، والتطهر، والزهد، والتعبد، ومات سنة تسع للهجرة بالطائف كافرا بالأوثان وبالإسلام"(
12).
بجانب ما سبق.. فأمية -عند د. القمني- ليس كأي فرد (قاعدي) في تيار الحنفاء، لكنه واحد من أهم مجتهديهم لاستطاعته -بتفرد- نحت قاموسه الشعري / اللغوي الذي مكنه باقتدار من صياغة تعاليم "ملة عبد المطلب" (الحنيفية)، لذلك ينقل الدكتور بانبهار من شعر أمية حول عقيدته في البعث والحساب:
باتت همومي تسري طوارقها أكنى عيني والدمع سابقها
من أتاني من اليقين ولم أوت برأة يقصي ناطقها
أم من تلظى عليه واقدة النـ ـار محيط بهم سرادقها
أم أسكن الجنة التي وعد الأبـ ـرار مصفوفة نمارقها
وفي رب الحنيفية، ينقل:
إله العالمين وكل أرض ورب الراسيات من الجبال
بناها وابتنى سبعا شدادا بلا عمد يرين ولا صال
وعن عذاب الدار الآخرة، ينقل:
وسيق المجرمون وهم عراة إلى ذات المقامع والنكال
فنادجوا ويلنا ويلا طويلا وعجوا في سلاسلها الطوال
فليسوا ميتين فيستريحوا وكلهم بحر النار صالي
وحل المتقون بدار صدق وعيش ناعم تحت الظلال(
13).
وبدون أن يكاشف قارئه بدوافع انبهاره بشعر أمية، وهل عاش -كباحث- القلق العلمي بمراحل شكه وسؤاله، وبحثه المحايد، والموضوعي في آراء العلماء في شعر أمية والحنفاء لنرى هل انبهاره نتيجة بحث أم نتيجة لدوافع إيديولوجية؟ لم يرد د. القمني ضرورة علمية لهذه المكاشفة، واكتفى بتقديم هذه الأشعار بقوله: "ليلحظ قارئنا أننا نستند هنا في أمر هذا الشعر إلى مصادره الأصلية، إضافة إلى العودة إلى حل مسألة الانتحال فيه والأخذ بما انتهى الباحثون تأكيده غير منحول، فهي مهمة لها رجالها المتخصصون، وإليهم مرجعنا في هذا الأمر"(
14).
ليوحي بأن شعر أمية خارج المناقشة، وأن "عدم انتحاله" هو الرأي الذي انتهى إليه أهل الاختصاص، وذلك بغرض تأهيل عقل قارئه لتلقي ما سينقله عن د. جواد علي "في أكثر ما نسب إلى هذا الشاعر من آراء ومعتقدات، ووصف ليوم القيامة والجنة والنار، تشابه كبير وتطابق في الرأي جملة وتفصيلا لما ورد عنها في القرآن الكريم، بل نجد في شعر أمية، استخداما لألفاظ وتراكيب واردة في كتاب الله والحديث النبوي قبل المبعث، فلا يمكن -بالطبع- أن يكون أمية قد اقتبس من القرآن؛ لأنه لم يكن منزلا يومئذ".
"وأما بعد السنة التاسعة الهجرية فلا يمكن أن يكون قد اقتبس منه أيضا؛ لأنه لم يكن حيا فلم يشهد بقية الوحي، ولن يكون هذا الفرض مقبولا في هذه الحال، ثم إن أحدا من الرواة لم يذكر أن أمية ينتحل معاني القرآن وينسبها لنفسه، ولو كان قد فعل لما سكت المسلمون عن ذلك، ولكان الرسول أول الفاضحين له".
ويضيف د. القمني: "وهذا أيضا مع رفض أن يكون شعره منحولا أو موضوعا من قبل المسلمين المتأخرين؛ لأن في ذلك تكريما لأمية وارتفاعا بشأنه، وهو ما لا يقبل مع رجل كان يهجو نبي الإسلام بشعره، ولا يبقى (في رأي د. القمني) سوى أنه (أمية) كان حنيفيا مجتهدا استطاع أن يجمع من قصص عصره، وما كان عليه الحنفاء من رأي في شعره خاصة مع ما قاله بشأنه ابن كثير:
وقيل إنه كان مستقيما، وإنه كان أول أمره (في الجاهلية) على الإيمان، ثم زاغ عنه (بعد الإسلام)، ولا ريب (الكلام للقمني) أن الاستقامة تفرز الاستقامة وتلتقيها، وربما كتب (أمية) ما كتب إبان هذه الفترة التي حددها ابن كثير، ولا ريب أنها كانت قبل البعثة النبوية؛ لأنه بعدها -ولا شك- زاغ عن إيمانه واستقامته، إذ رأى الملك والنبوة تخرج من بين يديه بعد أن أعد نفسه لها طويلا"(
15).
هذا بالنص ما قاله د. القمني عن أمية بن أبي الصلت، وما قاله يحاصر عقل القارئ بأن أمية أولا "برز كنموذج للاستقامة والإيمان، والتطهر، والزهد، والتعبد".
ثانيا: أنه كان حنيفيا مجتهدا استطاع -بجهده الفذ- أن يكتب ما كتب من أشعار.
ثالثا: أن ما نقله من شعر أمية "غير موضوع".
رابعا: أن ما كتبه أمية "والذي جاء مطابقا لما ورد في القرآن" كتبه قبل البعثة النبوية، أي قبل نزول القرآن، ربما بسنوات، وكل هذا -كما نرى- يحصر عقل القارئ في دائرة التسليم بالاحتمال المسكوت عنه، وهو استعانة النبي محمد بشعر أمية في كتابة قرآنه.
ونكرر نحن لسنا ضد حق د. القمني في ممارسة الشك، وأن يصل شكه (كماركسي-مادي) إلى حد التشكيك في القرآن، وإلى حد طرح شعر أمية كمنبع جاهلي لكتاب الإسلام المقدس، فالدكتور في شكه في المنبع الإلهي للقرآن لم يكن الأول ولن يكون الأخير، لكن الفارق بينه وبين غيره من المستشرقين الذين اتفق معهم في نفي إلهية القرآن وإثبات بشريته أنهم طرحوا كل الاحتمالات على بساط البحث وناقشوا أدلة كل احتمال وخرجوا برأي يميل إلى أخذ محمد قرآنه من شعر أمية، وصاغوا هذه النتيجة في أسلوب واضح ومعبر بدقة عن مقصودهم، بحيث لا يحتمل تأويلا أو معنى آخر غير الذي قصدوه، ومن هؤلاء المستشرقين كليهان هوار، بور، فردرش شولتيس.
وبوضوحهم أتاحوا للعلماء العرب فرصة مراجعة هذا الرأي ونقده، ومن أشهر العلماء العرب الذين نقدوا هذا الرأي الاستشراقي د. طه حسين في كتابه "في الشعر الجاهلي"، ود. شوقي ضيف في كتابه "تاريخ الأدب العربي"، المجلد الأول "العصر الجاهلي"، ود. جواد في موسوعته "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام".
أما د. القمني فقد ناقش بتوسع ونفى بيقين شبهة استعانة أمية بالقرآن، وسكت بلا مبرر منطقي أو علمي أو أخلاقي عن استكمال بحث شبهة استعانة محمد بشعر أمية، واكتفى بقوله "ليس من الضروري أن أستنتج، ولكن القارئ يمكن أن يسنتج ما أنتهى إليه، وبالتالي أعتمد كثيرا على القارئ في استنتاج كثير من النتائج"(
16).
وحسب هذا القول فأبسط العقول ذكاء تستنتج من نفي الاحتمال الأول إثباتا للاحتمال الثاني، وهو أن الحفيد الهاشمي "محمد" استعان بشعر أمية، واقتبس منه تراكيبه وألفاظه، وادعى أن ما اقتبسه هو وحي الله إليه.
الحرام العلمي
هنا، ولأن د. القمني -كما مر بنا- في سبيل تأكيد حقيقة الصراع الهاشمي الأموي اقترف كل أنواع الحرام العلمي بدءا بتزوير وتحريف النصوص التراثية لإجبارها على أن تقول بحقيقة وتاريخية "ملة عبد المطلب" و"الإيديولوجيا الهاشمية" و"أهداف الحزب الهاشمي"، فإذا كان النبي محمد هو -كما يريد د. القمني- الحفيد الهاشمي الملتزم بخطط جده وأهداف حزبه، فأمية بن أبي الصلت (الشاعر) هو -كما صرح د. القمني- ابن رقية بنت عبد شمس بن عبد مناف، و"خاله" أمية بن عبد شمس الذي قاد الصراع الأموي ضد الحزب الهاشمي!!
أي أنه (الشاعر أمية) واحد من "كوادر" الحزب الأموي، ولأنه كذلك فقد فضل الكفر على الإسلام بسبب علاقته بسادات الحزب الأموي(
17).
وعليه، فإذا صدقنا حجة د. القمني في نفي الاحتمال الأول: أن أمية لو كان ينتحل معاني القرآن وينسبها لنفسه "لما سكت المسلمون على ذلك، ولكان الرسول (الحفيد الهاشمي) أول الفاضحين له"، وهي حجة قوية، ولخصوصية علاقة أمية بالحزب الأموي فالعقل والمنطق و"ألف باء" بحث علمي كانوا يفرضون على الدكتور )العلماني حتى النخاع) بحث الاحتمال الثاني لكشف موقف أمية وحزب أخواله الأمويين من الحفيد الهاشمي الذي -حسب الاحتمال المسكوت عنه- يستعين بأشعار ابن أختهم في كتابة قرآنه، وهل سكت أمية على ما فعله محمد الهاشمي؟ وهل سكت الحزب الأموي وضحى بهذه الفرصة لإجهاض الخطط الهاشمية بكشف المنبع الأموي للقرآن؟!
كان يجب -علميا ومنطقيا- على د. القمني بحث هذه الجزئية الخطيرة، والتنقيب في كتب التراث عن وقائع ترصد موقف أمية والحزب الأموي، ولكن للأسف لم يرد القمني اقتحام هذه المنطقة لإنارتها، وفضل أن يتحسس القارئ ما سكت عنه الدكتور التنويري، ونحن أمام هذه الرغبة القمنية رجعنا إلى المراجع التاريخية للبحث والتنقيب عن الموقف الأموي (الشاعر والحزب) لنمسك بالموقف القمني.
أميه يرد على القمني
ونبدأ بموقف أمية الذي رواه ابن كثير، والذي لا نشك في علم د. القمني به، والذي أيضًا لا نشك في تجاهله المتعمد لهذه الواقعة التي تسجل اللقاء الوحيد -في حدود علمي- الذي جمع بين النبي محمد والشاعر أمية، فقد روى ابن كثير أن أمية لما قدم من البحرين إلى مدينته الطائف قال لأهلها: ما يقول محمد بن عبد الله؟ قالوا: يزعم أنه نبي، هو الذي كنت تتمنى، فخرج أمية حتى قدم مكة فلقيه، فقال: يا ابن عبد المطلب.. ما هذا الذي تقول؟
- رد الرسول أقول: إني رسول الله، وأن لا إله إلا الله.
- قال أمية: أريد أن أكلمك فعدني غدا.
- قال الرسول: فموعدك غدا.
- قال أمية: فتحب أن آتيك وحدي أو في جماعة من أصحابي، وتأتيني وحدك أو في جماعة من أصحابك؟
- فقال الرسول: أي ذلك شئت.
- قال أمية: فإني آتيك في جماعة فأتِ في جماعة.
فلما كان الغد غدا أمية في جماعة من قريش، وغدا رسول الله معه نفر من أصحابه حتى جلسوا في ظل الكعبة، فبدأ أمية فخطب، ثم سجع ثم أنشد الشعر (كل ذلك لإظهار قدراته وتعجيز النبي) حتى إذا فرغ الشعر قال أمية: أجبني يا ابن عبد المطلب، فقال رسول الله: بسم الله الرحمن الرحيم (يس والقرآن الحكيم...) حتى إذا فرغ منها وثب أمية يجر رجليه، فتبعته قريش يقولون: ما تقول يا أمية؟ قال: أشهد أنه على الحق(
18).
هذا هو اللقاء الذي تجاهله د. القمني (ولم يجهله)، وأعتقد أن هذا الدكتور (الذي ينادي بإعادة ترتيب آيات وسور القرآن) بالتأكيد يعرف أن سورة "يس" التي تحدى بها النبي "خطابة" و"سجع" و"شعر" أمية تبلغ آياتها ثلاثا وثمانين آية، وأن الآية 69 تقول: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ).
والذي يمكننا فهمه من سياق رواية ابن كثير أن أمية استمع إلى هذه الآية من الرسول نفسه، ولم يكتشف (رغم كفره) ما اكتشفه الدكتور التنويري (رغم إسلامه) التشابه الكبير والتطابق في الرأي جملة وتفصيلا بين شعره والقرآن، لذلك شهد أمية -أمام الجماعة التي رافقته من قريش (وربما من الحزب الأموي)- بأن محمدا "على الحق".
ليس هذا فقط، بل الثابت أيضا أن أمية بعد سبع سنوات من هذا اللقاء وهذه الشهادة ذهب ليعلن إسلامه، ولكن بعض أهل مكة علموا بمسيره فأرادوا رده عن غايته ليس بكشفهم له استعانة الحفيد الهاشمي بشعره وإنما بإحياء العصبية الجاهلية في قلبه، وتذكيره بمن قتل في غزوة بدر من زعماء الحزب الأموي(
19).
وما تجاهله د. القمني -ونقلناه هنا- يضع عقولنا على حقيقة أن هذا الدكتور -للأسف- لم يحركه العلم للبحث عن حقيقة، وإنما تحرك وحركه هدف واحد ووحيد هو التشكيك في فكرة الوحي "الغيبية" لتناقضها مع "ماديته"؛ لذلك لم يكتف بتجاهل معلومة تاريخية كانت -على الأقل- كفيلة بترشيد رأيه، لكنه -وبقصد- اقترف جريمة تحريف نصوص مرجعه ليوهم القارئ بأن "د. جواد علي" يشاركه هذا الرأي "المادي" في القرآن.
هنا، ولأن د. جواد علي يعد واحدا من أهم العلماء العرب الذين نقضوا هذا الرأي بعمق وحياد وموضوعية العالم الباحث عن الحقيقة، وأفرد لمناقشة هذه الشبهة الاستشراقية عشرات الصفحات في عمله الموسوعي عن تاريخ العرب قبل الإسلام، فنحن سنحاول نقل بعض ما كتبه في فصل "الحنفاء" لنقارنه بما نقله د. القمني.
يقول د. جواد: "في أكثر ما نسب إلى هذا الشاعر (أمية بن أبي الصلت) من آراء ومعتقدات دينية ووصف ليوم القيامة والجنة والنار تشابه كبير وتطابق في الرأي جملة وتفصيلا لما ورد عنها في القرآن الكريم.
بل نجد في شعر أمية استخداما لألفاظ وتراكيب واردة في كتاب الله وفي الحديث النبوي، فكيف وقع ذلك؟ وكيف حدث هذا التشابه؟ هل حدث ذلك على سبيل الاتفاق، أو أن أمية أخذ مادته من القرآن الكريم؟ أو كان العكس، أي أن القرآن الكريم هو الذي أخذ من شعر أمية فظهرت الأفكار والألفاظ التي استعملها أمية في آيات الله وسوره؟
فكتاب الله إذن هو صدى وترديد لآراء ذلك الشاعر (...) أو أن كل شيء من هذا الذي نذكره ونفترضه افتراضا لم يقع، وإن ما وقع ونشاهده سببه أن هذا الشعر وضع على لسان أمية في الإسلام، وأن واضعيه حاكوا في ذلك ما جاء في القرآن الكريم، فحدث لهذا السبب هذا التشابه؟".
بعد طرح تساؤلاته بدأ د. جواد بهدوء العالم في مناقشة هذه الاحتمالات، فقال عن الاحتمال الأول: "وهو فرض أخذ أمية من القرآن، فهو احتمال إن قلنا بجوازه ووقوعه، وجب حصر هذا الجواز في مدة معينة، وفي فترة محدودة تبتدئ بمبعث الرسول وتنتهي في السنة التاسعة من الهجرة، وهي سنة وفاة أمية بن أبي الصلت.
أما ما قبل المبعث فلا يمكن بالطبع أن يكون أمية قد اقتبس من القرآن؛ لأنه لم يكن منزلا يومئذ، وأما بعد السنة التاسعة فلا يمكن أن يكون هذا الفرض مقبولا معقولا في هذه الحالة، إلا إذا أثبتنا بصورة جازمة أن شعر أمية الموافق لمبادئ الإسلام، ولما جاء في القرآن قد نظم في هذه المدة المذكورة، أي بين المبعث والسنة التاسعة من الهجرة (...)
ولكن من في استطاعته تثبيت تواريخ شعر أمية وتعيينه، وتعيين أوقات نظمه؟ إن في استطاعتنا تعيين بعضه من مثل الشعر الذي قاله في مدح عبد الله بن جدعان أو معركة بدر، ولكننا لا نستطيع أن نفعل ذلك بالغالبية منه، وهي غالبية لم يتطرق الرواه إلى ذكر المناسبات التي قيلت فيها.
ثم إن بعض هذا الكثير مدسوس عليه مروي لغيره، وبعضه إسلامي فيه مصطلحات لم تعرف إلا في الإسلام، فليس من الممكن الحكم على آراء أمية الممثلة في مصطلحات لم تعرف إلا في الإسلام، فليس من الممكن الحكم على آراء أمية الممثلة في شعره هذا بهذه الطريقة.
ثم إن أحدا من الرواة لم يذكر أن أمية كان ينتحل معاني القرآن الكريم وينسبها إلى نفسه، ولو كان قد فعل لما سكت المسلمون عن ذلك، ولكان الرسول أول الفاضحين له".
وبعد نفيه احتمال أخذ أمية من القرآن يقول د. جواد: "يبقى لدينا افتراض آخر هو أخذ القرآن الكريم من أمية، وهو افتراض ليس من الممكن تصوره، فعلى قائله إثبات أن شعر أمية في هذا الباب هو أقدم عهدا من القرآن، وتلك قضية لا يمكن إثباتها أبدا.
ثم إن قريشا ومن لف لفها ممن عارضوا الرسول لو كانوا يعلمون ذلك ويعرفونه لما سكتوا عنه، ولقالوا له: إنك تأخذ من أمية كما قالوا له: إنك تأخذ من غلام نصراني كان مقيما بمكة، وإليه أشير في القرآن بقوله: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ) (...) ولم يشيروا إلى أمية بن أبي الصلت.
ثم إن أمية نفسه لو كان يعلم ذلك أو يظن أن محمدا إنما أخذ منه لما سكت عنه، وهو خصم له ومنافس عنيد أراد أن تكون النبوة له، وإذا بها عند شخص آخر ينزل الوحي عليه، ثم يتبعه الناس فيؤمنون بدعوته، أما هو فلا يتبعه أحد، هل يعقل سكوت أمية لو كان قد وجد أي -وإن كان بعيدا- يفيد أن الرسول قد أخذ فكره منه؟ لو كان شعر أمية بذلك لنادى به حتما"(
20).
ويؤكد د. جواد: "أما أنا فأرى أن مرد هذا التشابه والاتفاق إلى الصنعة والافتعال، لقد كان أمية شاعرا، ما في ذلك شك، لإجماع الرواة على القول به، وقد كان ثائرا على قومه ناقما عليهم لتعبدهم للأوثان، وقد كان على شيء من التوحيد والمعرفة باليهودية والنصرانية.
ولكني لا أظن أنه كان واقفا على كل التفاصيل المذكورة في القرآن وفي الحديث عن العرش والكرسي، وعن الله وملائكته، وعن القيامة والجنة والنار، والحساب والثواب والعقاب ونحو ذلك، إن هذا الذي أذكره شيء إسلامي خالص، لم ترد تفاصيله عند اليهود ولا النصارى، ولا عند الأحناف، فوروده في شعر أمية، وبالكلمات والتعابير الإسلامية، هو عمل جماعة فعلته في عهد الإسلام ووضعته على لسانه.
وكما وضعوا أو وضع غيرهم في شعر أمية في عدم اتساقه، وفي اختلاف أسلوبه وروحه، فبينما نجد شعره بالدين في ديباجة جاهلية على نسق الشعر المنسوب إلى شعراء الجاهلية، نجد القسم الديني منه والحكمي في أسلوب بعيد عن هذا الأسلوب وبعيد عن الأساليب المعروفة عن الجاهليين، أسلوب يجعله قريبا من شعر الفقهاء والصوفيين المتزمتين"، ويقول: "وأثر الوضع على بعض شعر أمية واضح ظاهر لا يحتاج إلى دليل، وهو وضع يثبت أن صاحبه لم يكن يتقن له صنعة الوضح جيدا"(
21).
هذا بعض ما قاله د. جواد علي، وسكت د. القمني عن نقله بقصد التشكيك في المصدر الإلهي للقرآن وإرجاعه إلى مصدر بشري (جاهلي) هو -كما يرى- الشعر المنسوب لأمية بن أبي الصلت، ونحن لسنا ضد حق د. القمني (المادي) في أن يذهب هذا المذهب، وأن يشارك المستشرقين رأيهم في القرآن، فالدكتور ربما فعله كان يتسق تماما مع "ماديته" الفلسفية، ولكننا ضد توسله بالكذب والتحريف، والتحوير، والتزييف، والتقول على المراجع التاريخية، بما لا تقوله لإجبارها على أن تقول بما يريده كمادي.
وما انتهينا إليه يعيدينا بقوة إلى ما قاله د. القمني -ونقلناه- إن كتب السير "لم تذكر أن الوحي نزل على زيد بن ثابت ولجنته ليرتبوا آيات وسور القرآن على شكلها"، وإن بقاء "الحال دون أي محاولة لإعادة النظر واتباع طريقة علمية في ترتيب آيات وسور المصحف" كان "عن قصد مبيت" لـ "إكساب الشكل قدسية المضمون، مع إغلاقه بالضبة ووضع المفتاح بيد فقهاء السلطان"، فقد وجد الدكتور أنه "لا سبيل سوى أن نتحرك نحن لنرتب ما بأيدينا (من قرآن) وفهمه (بعد إعادة ترتيب آياته وسوره) وفق ظرفنا الآني"!!
ولأن الدكتور حتى الآن اكتفى بإطلاق دعوته، وتوقف عن "التحرك" لإنجازها وتركنا كقراء له لا نعرف سبب توقفه عن إنجاز هذا الترتيب الذي سيضع اسمه إلى جانب أسماء "فايل" و"نولديكي" و"شقالي" و"بلاشير".. إلخ، هل لأنه حتى الآن لم يوفق في سرقة "المفتاح" من "يد فقهاء السلطان" ليبدأ في تكسير باب "قدسية الشكل" القرآني؟ أم لأنه حتى الآن لم يستقر على تفضيل وتبني ترتيب واحد من الترتيبات الاستشراقية لسور القرآن؟ أم لأنه حتى الآن ينتظر أن يخصه الوحي بالنزول عليه، وتمكينه من إنجاز هذا الترتيب؟
فحتى يأتينا الدكتور بإجابات جادة عن هذه التساؤلات أستطيع القول إنه في كل كتاباته المنشورة تعمد "تشغيل القرآن ورب القرآن" لإجبارهما على منح "شهادات الشرعية" لموقفه "المادي"، وللدقة، "المعادي" لنبي القرآن، وهذه "بعض"، أكرر "بعض" أدلتي.
(
1) مجلة الأدب- أدب ونقد- العدد 201- ص 34 / 35.
(
2) د. القمني "الحزب الهاشمي" دار سينا- ص 45.
(
3) ابن منظور- لسان العرب- دار المعارف- ج 6، ص 4516.
(
4) د. القمني- المرجع السابق- ص 43.
(
5) نفس المرجع- ص 49- وراجع ابن كثير- "البداية والنهاية" جـ2 ص 258، والطبري "تاريخ الأمم والملوك" دار الريان- ج 1، ص 505.
(
6) البيهقي "دلائل النبوة" دار الكتب العلمية- جـ 2، ص 9، والإمام الصالحي- "سبل الهدي والرشاد" المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، جـ 1، ص 146.
(
7) ابن كثير- جـ 2، ص 225.
(
8) د. القمني- المرجع السابق- ص 79.
(
9) نفس المرجع ص 80- وقارن ابن كثير- جـ 2، ص 299.
(
10) القمني- نفس المرجع- طبعة مجلة "مصرية" العدد التاسع- أكتوبر 1986م، ص 15- ومجلة "الكرمل" (الفلسطينية)- العدد 31 لسنة 1989م، ص 48، وطبعة دار سينا- ص 69- د. القمني- الإسلاميات" ص 63.
(
11) نفس المرجع والصفحات.
(
12) نفس المرجع- "مصرية" ص 16- "الكرمل" ص 48- ودار سينا ص 69، والإسلاميات ص 65.
(
13) نفس المرجع- مصرية ص 16-17، والكرمل ص 48، وسينا ص 69 / 70، والإسلاميات ص 64/65/66.
(
14) نفس المرجع- دار سينا- ص 67، والإسلاميات ص 61.
(
15) نفس المرجع- مصرية ص 47/18ـ والكرمل ص 49، وسينا ص 73/74، والإسلاميات ص 68/69.
(
16) د. القمني- ته مما نسب إليه من اتهامات فور "الأسطورة والتراث" طبعة دار سينا ص 281.
(
17) د. القمني- الحزب الهاشمي- دار سينا ص 70.
(
18) ابن كثير- جـ 2 ص 230.
(
19) ابن هشام- السيرة النبوية- المكتبة التوفيقية- جـ 2 ص 633.
(
20) د. جواد علي- المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام- جـ 6، ص 490 / 492.
(
21) نفس المرجع- جـ 6، ص 497.


المصريون .. وقناة ساويرس !


* جمال سلطان

أمس حاولت إحدى قنوات ساويرس الفضائية عمل احتفالية بسيد القمني ، غير أن توتر مقدمة البرنامج اللافت كان يشير إلى الرسالة المطلوبة منها بوضوح ، فلا يوجد أحد يجري مداخلة ينتقد فيها القمني إلا وشوشرت هي بنفسها عليه ، ويظل المسكين يتكلم وهي تتكلم حتى لا يفهم من كلامه أحد شيئا ، وهي إهانة لها كمقدمة برامج جديدة >

ولكن من الواضح أن "المعلم ساويرس" كان ينتظر التقرير ، وفريق العمل في البرنامج يدركون ذلك ، عندما أخبرني صديق عن الحلقة قبل ربع ساعة جلست أنتظرها وأتابعها ، وكنت أضحك عندما بدأ سيد القمني يتكلم كواعظ ديني ويسرد تبجيله للنبي الكريم بأفخم الكلمات ، تحول القمني إلى شخصية متدينة وديعة ومثيرة للشفقة ، ويتحدث عن احتياجه للجائزة لأنه مسؤول عن أسرة وخلافه كما يستدر عطف المشاهد بالحديث عن "زوج أخته" الذي توفي ، وهو أمر لا علاقة له بالبرنامج ولا المشاهدين .

كما يشتكي من أن حملة صحيفة المصريون عليه وفتوى دار الإفتاء جعلت قسما من أهله يتبرأون منه ، ولذلك احتاج الأمر إلى أن يؤكد لهم على الهواء أنه ما زال يشهد أن لا إله إلا الله ، ولم أتوقف عند هجومه على صحيفة المصريون وعلى شخصي وشخص أخي الأستاذ محمود سلطان ووصفنا بالأخطبوط وأننا "إخوانجية قراري" حسب بلاغته التقليدية ، غير أن ما ساءني أن تدعي مقدمة البرنامج بكل بجاحة أنها تحاول الاتصال بي بدون فائدة لأني مغلق هواتفي.

وكان من لطف الله أن الصديق جمال عبد الرحيم عضو مجلس نقابة الصحفيين في الصالة الخارجية للاستديو ينتظر دخوله بعد القمني ، لأن القمني خاف من مواجهته وطلب أن يكون وحده ، اتصل علي واندهش لأن هاتفي مفتوح واستغرب ما تقوله المذيعة ، فطلبت منه أن يطلب هو منها على الهواء الاتصال بي وإعطائها رقمي ، وقد كان ، وارتبكت المذيعة ارتباكا شديدا من وقع الفضيحة .

والمهم أنها طوال الحلقة تسأل الضيوف عن "نصوص" القمني التي نتهمه بها ، وبطبيعة الحال ، مثل هذه البرامج القصيرة لا تسمح باستعراض رؤى فكرية على هذا القدر من الخطورة تحتاج لمساحة وقت كافية ، ولكني جهزت لها عدة نصوص ، وقلت لها : سأسمعك كلام القمني ونصوصه الحرفية ، وما إن بدأت أقرأ كلماته المسيئة للذات الإلهية حتى قطعوا الهاتف علي ، وادعت أن هناك مشكلة في الاتصال ، كانت مسرحية سخيفة ، لا تجرؤ عليها بكل هذا السفور قناة محترمة .

مقدمة البرنامج استدعت فريدة النقاش وجمال فهمي من أجل إدانتي بسبب طلبي للفتوى من دار الإفتاء المصرية ، وطبعا اعتبرتها فريدة النقاش ضد ميثاق الشرف الصحفي وهو ما رده عليها جمال عبد الرحيم مؤكدا أن هذا حق أي مواطن ، ولا يتعارض أبدا مع ميثاق الشرف الصحفي ، وأننا لجأنا إلى الجهة المختصة بالدولة ذاتها ، وطبعا الست فريدة محروق دمها لأن القضاء سحب الجائزة من حلمي سالم نائبها في مجلة أدب ونقد .

وأما الزميل جمال فهمي عضو مجلس نقابة الصحفيين فكان فجا مفتقرا لأبسط أصول اللياقة وهو يسبني أنا وشقيقي ويشتم جريدة المصريون ، دفاعا عن سيد القمني وفاروق حسني ، صحيح أن "حظيرة" فاروق واسعة ، لكن ليس إلى هذا الحد الذي يتنكر فيه عضو مجلس نقابة لمسؤوليته تجاه زميله ويدعي أنه لا يعرفني ، وللأمانة فإنه لا يشرفني بالمرة معرفة جمال فهمي ، وهو ـ بالمقياس المهني ـ حالة هامشية في دنيا الصحافة .

لكن ، إذا كنت لا تعرفني يا جمال ولا تعرف إن كنت عضوا بنقابة الصحفيين ، لماذا كنت تصدع رأسي بإيميلاتك أثناء الانتخابات ، وأما حديثه عن الشرف الصحفي فكان ينبغي لمثله أن ينأى عن الحديث عنه ، لأننا والحمد لله ، لا نركب الشيروكي من أحمد قذاف الدم ، ولم نخون المناضلين المعتقلين عندما يأتمنونا على مذكراتهم للنشر فنبيعها لأجهزة الأمن.

وعلى كل حال ، ما ينكشف لنا كل يوم من اتساع رقعة الظلام الذي بسطه فاروق حسني وعصابته على الحياة الثقافية في مصر يزيدنا إصرارا على المضي في حملتنا ، وسوف نفاجئهم في الأيام المقبلة ـ بعون الله ـ بما لم يكن في حسبانهم .

هامش
جمال عبد الرحيم


كل التحية للنقابي الوطني الشريف الأستاذ جمال عبد الرحيم ، الذي عرضوا عليه استلام مكافأته المالية بعد الحلقة ، وبعد أن استلمها القمني ، فرفض جمال عبد الرحيم بمروءة وقال لهم على مسمع من الجميع : أنا لا آخذ فلوس من ساويرس.

*صحفي ومفكر مصري
gamal@almesryoon.com
صحيفة المصريون
23 - 7 – 2009

أيهما أخذ من الآخر

ردا علي افتراءات سيد القمني :





القرآن وأميّة بن أبى الصلت:






أيهما أخذ من الآخر؟




* د. إبراهيم عوض





أمية بن أبى الصلت شاعر مخضرم من قبيلة ثقيف، التى كانت تسكن الطائف. وكان أبوه أيضا شاعرا، كما كانت له أخت تُسَمَّى: "الفارعة"، وبنتان وعدة أبناء بعضهم شعراء، وأخٌ اسمه "هذيل" أُسِر وقُتِل مشركا فى حصار الطائف.

وهو من الحنفاء الذين ثاروا على عبادة الأصنام وآمنوا بالله الواحد واليوم الآخر، وأزعجهم التردِّى الخلقى الذى كان شائعا فى الجزيرة العربية، وتطلعوا إلى نبى يُبْعَث من بين العرب، بل إنه هو بالذات كان يرجو أن يكون ذلك النبى. وكان أمية يخالط رجال الدين ويقرأ كتبهم ويقتبس منها فى أشعاره.

وكان رجل أسفار وتجارة، كما كان يمدح بعض كبار القوم كعبد الله بن جدعان وينال عطاياهم وينادمهم على الخمر، وإن قيل إنه قد حرَّمها بعد ذلك على نفسه. وتُجْمِع المصادر على أنه مات كافرا حَسَدًا منه وبَغْيًا، إذ ما إن بلغه مبعث النبى محمد حتى ترك الطائف فارًّا إلى اليمن ومعه بنتاه اللتان تركهما هناك، وأخذ يجول فى أرجاء الجزيرة ما بين اليمن والبحرين ومكة والشام والمدينة والطائف.
وتذكر لنا الروايات مع ذلك أنه وفد على النبى ذات مرة وهو لا يزال فى أم القرى واستمع منه إلى سورة "يس" وأبدى تصديقه به مؤكدا لمن سأله من المشركين أنه على الحق. بَيْدَ أن حقده الدفين منعه من أن يعلن دخوله فى الإسلام رسميا وبصورة نهائية رغم أنه، كما جاء فى إحدى الروايات، كان قد اعتزم أن يذهب إلى المدينة للقاء الرسول مرة أخرى وإعلان دخوله فى الدين الجديد، لكن الكفار خذّلوه وأثاروا نار حقده على محمد من خلال تذكيره بأنه قتل أقاربه فى بدر ورماهم فى القليب، فما كان منه إلا أن عاد أدراجه بعد أن شقّ هدومه وبكى وعقر ناقته مثلما يصنع الجاهليون.

ثم لم يكتف بهذا، بل رثى هؤلاء القتلى وأخذ يحرض المشركين على الثأر لهم منضمًّا بذلك إلى جبهة الشرك والوثنية ضد الإسلام، وظل هكذا حتى لقى حتفه على خلاف فى السنة التى مات فيها ما بين الثانية للهجرة إلى التاسعة منها قبل فتح النبى الطائف بقليل، وهو الأرجح (شعراء النصرانية قبل الإسلام/ ط2/ دار المشرق/ بيروت/219 وما بعدها، ود. جواد على/ المفصَّل فى تاريخ العرب قبل الإسلام/ ط2/ دار العلم للملايين/ 1978م/ 6/ 478- 500، وبهجة عبد الغفور الحديثى/ أمية بن أبى الصلت- حياته وشعره/ مطبوعات وزارة الإعلام/ بغداد/ 1975م/ 46 فصاعدا. وله تراجم فى "طبقات الشعراء"، و"الشعر والشعراء"، و"الأغانى" وغيرها).

ولأمية ديوان شعر يختلط فيه الشعر الصحيح النسبة له بالشعر المنسوب له ولغيره بالشعر الذى لا يبعث على الاطمئنان إلى أنه من نظمه، وهذا القسم الأخير هو الغالب. وأكثر شعر الديوان فى المسائل الدينية: تأمّلاً فى الكون ودلالته على ربوبية الله، ووصفًا للملائكة وعكوفهم على تسبيح ربهم والعمل على مرضاته، وإخبارًا عن اليوم الآخر وما فيه من حساب وثواب وعقاب، وحكايةً لقصص الأنبياء مع أقوامهم، إلى جانب أشعاره فى مدح عبد الله بن جدعان والفخر بنفسه وقبيلته وما إلى ذلك.

ومن الشعر الدينى المنسو ب إليه ما يقترب اقترابا شديدا من القرآن الكريم معنًى ولفظًا وكأننا بإزاء شاعرٍ وَضَع القرآنَ بين يديه وجَهَدَ فى نظم آياته شعرا. ومن هذه الأشعار الشواهد التالية:

لك الحمد والنعماء والمُلْك ربنا * فلا شىء أعلى منك جَدًّا وأَمْجَدُ

مليكٌ على عرش السماء مهيمنٌ * لعزّته تَعْنُو الجباه وتسجدُ

مليك السماوات الشِّدَاد وأرضها * وليس بشىء فوقنا يتأودُ

تسبِّحه الطير الكوامن فى الخفا * وإذ هى فى جو السماء تَصَعَّدُ

ومن خوف ربى سبّح الرعدُ حمده* وسبّحه الأشجار والوحش أُبَّدُ

من الحقد نيران العداوة بيننا * لأن قال ربى للملائكة: اسجدوا

لآدم لمّا كمّل الله خلقه * فخَرُّوا له طوعًا سجودا وكدّدوا

وقال عَدُوُّ الله للكِبْر والشَّقا: * لطينٍ على نار السموم فسوَّدوا

فأَخْرَجَه العصيان من خير منزلٍ * فذاك الذى فى سالف الدهر يحقدُ

* * *

ويوم موعدهم أن يُحْشَروا زُمَرًا * يوم التغابن إذ لاينفع الحَذَرُ

مستوسقين مع الداعى كأنهمو * رِجْل الجراد زفتْه الريح تنتشرُ

وأُبْرِزوا بصعيدٍ مستوٍ جُرُزٍ * وأُنـْزِل العرش والميزان والزُّبُرُ

وحوسبوا بالذى لم يُحْصِه أحدٌ * منهم، وفى مثل ذاك اليوم مُعْتبَرُ

فمنهمو فَرِحُ راضٍ بمبعثه * وآخرون عَصَوْا، مأواهم السَّقَرُ

يقول خُزّانها: ما كان عندكمو؟ * ألم يكن جاءكم من ربكم نُذُرُ؟

قالوا: بلى، فأطعنا سادةً بَطِروا * وغرَّنا طولُ هذا العيشِ والعُمُرُ

قالوا: امكثوا فى عذاب الله، ما لكمو* إلا السلاسل والأغلال والسُّعُرُ

فذاك محبسهم لا يبرحون به * طول المقام، وإن ضجّوا وإن صبروا

وآخرون على الأعراف قد طمعوا * بجنةٍ حفّها الرُّمّان والخُضَرُ

يُسْقَوْن فيها بكأسٍ لذةٍ أُنُفٍ * صفراء لا ثرقبٌ فيها ولا سَكَرُ

مِزاجها سلسبيلُ ماؤها غَدِقٌ * عذب المذاقة لا مِلْحٌ ولا كدرُ

وليس ذو العلم بالتقوى كجاهلها * ولا البصير كأعمى ما له بَصَرُ

فاسْتَخْبِرِ الناسَ عما أنت جاهلهُ * إذا عَمِيتَ، فقد يجلو العمى الخبرُ

كأَيِّنْ خلتْ فيهمو من أمّةٍ ظَلَمَتْ * قد كان جاءهمو من قبلهم نُذُرُ

فصدِّقوا بلقاء الله ربِّكمو * ولا يصُدَّنَّكم عن ذكره البَطَرُ

* * *

قال: ربى، إنى دعوتك فى ا لفـــــــــــــــ*ــجر، فاصْلِحْ علىَّ اعتمالى
إننى زاردُ الحديد على النــــــــــــــــــــــــ*ــاس دروعًا سوابغ الأذيالِ

لا أرى من يُعِينُنِى فى حياتى * غير نفسى إلا بنى إسْرالِ

وقد ظنت طوائف المبشرين ممن فقدوا رشدهم وحياءهم أن بمستطاعهم الإجلاب على الإسلام ورسوله وكتابه بالباطل فأخذوا يزعمون أن القرآن مسروق من شعر أمية بن أبى الصلت لهذه المشابهات. والواقع أن عددا من كبار دارسى الأدب الجاهلى، من المستشرقين قبل العرب والمسلمين، قد رَأَوْا عكس هذا الذى يزعمه المبشرون، إذ قالوا بأن هذه الأشعار التى تُنْسَب لأمية مما يتشابه مع ما ورد فى القرآن عن خلق الكون والسماوات والأرض، وعن العالم الآخر وما فيه من حساب وثواب وعقاب وجنة ونار، وعن الأنبياء السابقين وأقوامهم وما إلى ذلك، هى أشعار منحولة عليه.
قال ذلك على سبيل المثال تور أندريه وبروكلمان وبراو من المستشرقين، ود. طه حسين والشيخ محمد عرفة ود.عمر فروخ ود.شوقى ضيف ود. جواد على وبهجة الحديثى من العلماء العرب، وإن كان من المستشرقين مع ذلك من يدعى أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد أخذ بعض قرآنه من شعر هذا المتحنّف كالمستشرق الفرنسى كليمان هوار، ومنهم من قال إن الرسول وورقة قد استمدا كلاهما من مصدر واحد.

وإلى القارئ تفصيلا بهذا: فالمستشرق الألمانى كارل بروكلمان يؤكد أن أكثر ما يُرْوَى من شعر أمية هو فى الواقع منحول عليه، ماعدا مرثيته فى قتلى المشركين ببدر، وأنه إذا كان كليمن هوار المستشرق الفرنسى قد زعم أن شعره كان مصدرا من مصادر القرآن، فإن الحق ما قال تور أندريه من أن الأشعار التى نظر إليها هوار فى اتهامه هذا إنما هى نَظْمٌ جَمَع القُصَّاصُ فيه ما استخرجه المفسرون من مواد القصص القرآنى، وأن هذه الأشعار لا بد أن تكون قد نُحِلَتْ لأمية منذ عهد مبكر لا يتجاوز القرن الأول للهجرة، فقد سماه الأصمعى: "شاعر الآخرة"، كما أراد محمد بن داود الأنطاكى أن يفتتح القسم الثانى فى الدِّينِيّات من كتابه "الزهرة" بأشعار أمية (كارل بروكلمان/ تاريخ الأدب العربى/ ترجمة د. عبد الحليم النجار/ ط4/ دار المعارف/ 1/ 113).

يريد بروكلمان أن يقول: لولا أنه كان هناك شعر يدور حول الموضوعات الدينية التى ذكرناها قبلا منسوب لأمية منذ ذلك الوقت المبكر لما أطلق عليه الأصمعى هذه التسمية ولما فكر الأنطاكى أن يورد له أشعارا دينية فى كتابه المذكور. ويقول المستشرق براو كاتب مادة "أمية بن أبى الصلت" بـالطبعة الأولى من "دائرة المعارف الإسلامية"، تعليقا على اتهام هوار للقرآن بأنه قد استمد بعض مواده من أشعار أمية، إن صحة القصائد المنسوبة لهذا الشاعر أمر مشكوك فيه، شأنها شأن أشعار الجاهليين بوجه عام، وإن القول بأن محمدا قد اقتبس شيئا من قصائد أمية هو زعم بعيد الاحتمال لسبب بسيط، هو أن أمية كان على معرفة أوسع بالأساطير التى نحن بصددها،

كما كانت أساطيره تختلف فى تفصيلاتها عما ورد فى القرآن. ثم أضاف أنه، وإن استبعد أن يكون أمية قد اقتبس شيئا من القرآن، لا يرى ذلك أمرا مستحيلا. وهو يعلل التشابه بين أشعار أمية وما جاء فى القرآن الكريم بالقول بأنه قد انتشرت فى أيام البعثة وقبلها بقليل نزعات فكرية شبيهة بآراء الحنفاء استهوت الكثيرين من أهل المدن كمكّة والطائف، وغذّتها ونشّطتها كلٌّ من تفاسير اليهود للتوراة وأساطير المسلمين. ثم يخبرنا براو بما توصَّل إليه تور أندريه من أنه ليس فى قصائد أمية الدينية ما هو صحيح النسبة إليه، وأن هذا اللون من شعره هو من انتحال المفسرين (دائرة المعارف الإسلامية/ الترجمة العربية/ 4/ 463- 464).

وعند طه حسين أن "هذا الشعر الذى يضاف إلى أمية بن أبى الصلت وإلى غيره من المتحنفين الذين عاصروا النبى (ص) وجاؤوا قبله إنما نُحِلَ نَحْلاً. نحله المسلمون ليثبتوا أن للإسلام قُدْمَةً وسابقةً فى البلاد" (فى الأدب الجاهلى/ دار المعارف/ 1958م/ 145). ويرى الشيخ محمد عرفة أنه لو كانت هناك مشابهةٌ فعلا بين شعر أمية والقرآن الكريم لقال المشركون، الذين تحداهم الرسول بأن يأتوا بآية من مثله، إن أمية قد سبق أن قال فى شعره ما أورده هو فى القرآن زاعمًا أنه من لدن الله. لكنهم لم يقولوا هذا، بل اتهموه بأنه إنما يعلّمه عبد أعجمى فى مكة.
كذلك يؤكد أن شعر أمية لا يشبه فى نسيجه شعر الجاهلية القوى المحكم، إذ هو شعر بيِّن الصنعة والضعف على غرار شعر المولَّدين. ومن هنا كان هذا الشعر المنسوب لذلك المتحنف الطائفى هو شعر منحول عليه ومنسوب زورا إليه (من تعليق الشيخ محمد عرفة على مادة "أمية بن أبى الصلت" فى "دائرة المعارف الإسلامية"/ 4/ 465).

أما د. عمر فروخ فيؤكد أن القسم الأوفر من شعر أمية قد ضاع، وأنه لم يثبت له على سبيل القطع سوى قصيدته فى رثاء قتلى بدر من المشركين. وبالمثل نراه يؤكد أن كثيرا من الشعر الدينى المنسوب لذلك الشاعر هو شعر ضعيف النسج لا رونق له (د.عمر فروخ/ تاريخ الأدب العربى/ ط5/ دار العلم للملايين/ 1948م/ 1/ 217- 218).
ويرى د. شوقى ضيف أن المعانى التى يتضمنها شعر أمية مستمدة من القرآن بصورة واضحة، إلا أنه لا يرتب على ذلك أن يكون أمية قد تأثر بالقرآن، بل يؤكد أن الشعر الذى يحمل اسمه هو شعر ركيك مصنوعٌ نَظَمَه بعضُ القُصّاص والوُعّاظ فى عصور متأخرة عن الجاهلية. وردًّا على دعوى هوار بأن القرآن قد استمد بعض مادته من أشعار أمية يقول الأستاذ الدكتور إن ذلك المستشرق لا علم له بالعربية وأساليب الجاهليين، وإلا لتبين له أنها أشعار منحولةٌ بيِّنة النحل، ولما وقع فى هذا الحكم الخاطئ (د. شوقى ضيف/ العصر الجاهلى/ ط10/ دار المعارف/ 395- 396).
ويؤكد د. جواد على فى كتابه "المفصل فى تاريخ العرب" أن بعض أشعار أمية الدينية مدسوسة عليه، ومن ثَمّ لا يمكن أن يكون أميّة قد اقتبس شيئا من القرآن، وإلا لقام النبى عليه الصلاة والسلام والمسلمون بفضحه. وعلى هذا فهو أيضا يرى أن شعره الذى يوافق فيه القرآنَ إنما صُنِع بعد الإسلام صنعا لأنه ليس موجودا فى التوراة ولا فى الإنجيل ولا غيرهما من الكتب الدينية، اللهم إلا القرآن الكريم، وأن أكثره قد وُضِع فى عهد الحجاج تقربا إليه، وبخاصة أن شعره الدينى يختلف عن شعره المَدْحِىّ والرثائى وغيره، إذ يقترب من أسلوب الفقهاء والمتصوفة ونُسّاك النصارى، كما تكررت إشارات الرواة إلى أن هذا الشعر أو ذاك مما يُعْزَى له قد نُسِب لغيره من الشعراء.

ثم إنه قد مدح الرسول عليه السلام، كما أن فى الشعر المنسوب له ما يدل على أنه قد آمن به، فكيف يتسق هذا مع رثائه لقتلى بدر من المشركين؟ (المفصَّل فى تاريخ العرب قبل الإسلام/ 6/ 491- 496). أما بهجة عبد الغفور الحديثى فإنه يقسم شعر أمية الدينى إلى قسمين: قسم يظهر عليه أثر الحنيفية وكتب اليهود والنصارى، وقسم يظهر عليه أثر القرآن. وهو يميل إلى أن يكون القسم الأول له كما يظهر من أسلوبه ومعانيه، أما الثانى فمنحول عليه بدليل ما يبدو عليه من ركاكة لغته وضعف صياغته، ومن أسلوبه المستمد من القرآن (أمية بن أبى الصلت- حياته وشعره/ 127).

وقد بحثت عن طريق المشباك (النِّتّ) فى كتب الأحاديث النبوية الشريفة عن روايات تذكر شيئا من شعر أمية فلم أجد إلا ثلاثة أبيات له فى مُسْنَد أحمد يتحدث فيها عن الشمس وعرش الله بما لم يأت شىء منه فى القرآن، وأن الرسول عليه السلام قد صدّقه فيها، وهذا نصها:
رجلٌ وثورٌ تحت رجْل يمينه * والنسر لليسرى، وليثٌ مُرْصَدُ

والشمس تطلع كل آخر ليلة * حمراءَ يصبح لونها يتورّدُ

تأبَى فلا تبدو لنا فى رِسْلها * إلا مُعَذَّبَةً وإلا تُجْلَدُ

كما جاء أيضا فى مُسْنَدَىْ ابن ماجة وأحمد أن الشريد بن الصامت قد أنشد النبىَّ ذات مرة مائة بيت من شعر أمية، وكان كلما انتهى من إنشاد بيتٍ قال النبى عليه الصلاة والسلام: "هِيهْ"، يستحثه على الاستمرار فى الإنشاد، ثم عقّب صلى الله عليه وسلم فى النهاية قائلا: "كاد أن يُسْلِم"، وفى رواية أخرى فى مسند أحمد أن النبى لم يعلّق فى نهاية الإنشاد بشىء، بل سكت فسكت الشريد بدوره.

وهذا كل ماهنالك، فلم نعرف من الحديث ما هى الأبيات التى أنشدها الصحابى الكريم على مسامع رسول الله، ولا مدى مشابهتها للقرآن. على أن هاهنا نقطة لا بد من تجليتها قبل الانتقال إلى شىء آخر، إذ لا أظن الصحابى الجليل قد قصد عدد المائة تحديدا، فليس من المعقول أنه كان يعدّ الأبيات التى كان ينشدها على مسامع النبى أوّلاً بأوّل وهو يتلوها. ذلك أمر غير متخيَّل، والأرجح بل الصواب الذى لا أستطيع أن أفكر فى غيره أنه أراد الإشارة إلى أنه قد أنشد سيّدَ الأنبياء عددا غير قليل من الأبيات.

كذلك رجعتُ إلى تخريجات القصائد المشابهة للقرآن الكريم التى قام بها بهجة الحديثى فى رسالته عن أمية، فلفت انتباهى أن هذه القصائد، أو على الأقل الأبيات التى يوجد فيها ذلك التشابه، لم تَرِدْ فى أىٍّ من كتب الأدب واللغة والتاريخ والتفسير المعتبرة ككتاب "جمهرة أشعار العرب" لأبى زيد القرشى، أو "طبقات الشعراء" لابن سلام، أو "الشعر والشعراء" لابن قتيبة، أو "الأغانى" للأصفهانى، أو "تاريخ الرسل والملوك" أو "جامع البيان فى تفسير القرآن" للطبرى مثلا. بل إن كثيرا من هذه الأشعار لم تَرِدْ فى طبعة الديوان الأولى، فضلا عن أن بعضها قد نُسِب فى ذات الوقت إلى غيره من الشعراء.

نقطة أخرى مهمة جدا: لماذا لم يُثِرْ علماؤنا المتقدمون قضية التشابه بين شعر أمية والقرآن الكريم باستثناء محمد بن داود الأنطاكى، الذى كان يردّ، فيما يبدو، على من اتهم القرآن بالأخذ عن أمية بأن ذلك غير صحيح لأنه عليه السلام لا يمكن أن يستعين فى كتابه بشعر رجل أقر بنبوته وصدّق بدعوته، وأنه لو كان صحيحا رغم ذلك لسارع أمية إلى اتهام الرسول بالسرقة من شعره، وبذلك تسقط دعوته صلى الله عليه وسلم بأيسر مجهود وأقلّه؟ (الزهرة/ تحقيق د. إبراهيم السامرائى ود. نور حمود القيسى/ ط2/ مكتبة المنار/ الزرقاء/ 1406هـ- 1985م/ 2/ 503).

لقد كان ابن داود الأنطاكى من أهل القرن الثالث الهجرى، فى حين أن صاحب "الأغانى" قد جاء بعده بقرن، فكيف اطمأن المتقدم وشكّ المتأخر، أو فلنقل: كيف أورد المتقدمُ الشعرَ المنسوب لأمية، بينما لم يورده الأصفهانى، الذى جاء بعده بقرن كما قلنا؟ والأحرى أن يكون الوضع بالعكس حيث يكون المتقدم أقرب زمنا إلى صاحب الشعر فيستطيع من ثم أن يحسم الحكم فى مسألة نسبة الشعر إليه، على الأقل قبل تراكم الروايات وازدياد صعوبة غربلتها وإصدار حكم بشأنها.

بَيْدَ أن مثل هذا الوضع لا غرابة فيه، فعندنا مثلا ابن إسحاق وابن هشام اللذان اشتركا فى كتابة "سيرة رسول الله": تأليفًا بالنسبة لابن إسحاق، ومراجعةً وتعليقًا وتنقيةً بالنسبة لابن هشام، وجاء الأول قبل الثانى بزمن غير قصير كما هو معروف، ومع هذا لم يمنع ابنَ هشام تأخُّرُ زمنه عن النظر فى السيرة التى كتبها سَلَفُه وإجالة قلمه فيما يرى أنه لا بد من تغييره أو تصحيحه أو التعليق عليه بما يرى أنه الصواب أو الأقرب للحق، مثلما فعل عندما أنكر على ابن إسحاق مثلا إيراد أشعار لآدم وثمود والجن، بل لأفراد من قريش ذاتها ممن قال إن أهل العلم لا يعرفون لهم شعرًا أصلا أو ينكرون ما ينسب إليهم من شعر.
والمسألة بَعْدُ هى مسألة اختلاف فى شخصية الباحث ما بين مطمئنٍ يقبل ما يُرْوَى له ومدقِّقٍ لا يقبل إلا بعد تمحيص وتقليب...وهكذا. ومعروف أن ابن سلام وابن قتيبة وأبا الفرج الأصفهانى هم من النقاد ومؤرخى الأدب القدماء المشهود لهم بالتمحيص والتنقيب وعدم قبول أى شىء على علاته، بينما لا يزيد ما فعله ابن داود الأنطاكى فى كتابه "الزهرة" عن جمع الأشعار وتنسيقها، إلا حين يعلّق بكلمة هنا أو هناك تدور عادةً على شرح لفظة صعبة أو تحليل جانب من جوانب عاطفة الحب التى ألف كتابه عنها.

إن هذا كله من شأنه أن يعضّد القول الذى سمعنا كبار دارسى الأدب العربى من مستشرقين وعرب يرددونه من أن القصائد التى تتشابه مع القرآن من الشعر المنسوب لأمية هى فى الواقع قصائد منحولة. ولقد نبهنى هذا الاكتشاف إلى ما أحسست به عند مراجعتى لديوان أمية مؤخرا من أنى لا أستطيع أن أتذكر قراءتى لأىٍّ من هذه الأشعار فى الكتب التى أومأتُ إليها لِتَوِّى. وهذا هو السبب فى أننى قد استبدّ بى الاستغراب أثناء مطالعتى لذلك النوع من قصائد أمية حين فكرت فى الكتابة عن هذه القضية بالرغم من كثرة ما قرأت عن الرجل من قبل فى "الأغانى" و"طبقات الشعراء" و"الشعر والشعراء" مثلا، وكذلك فى كتب تاريخ الأدب العربى التى ألفها باحثون معاصرون ممن تكلموا فى هذه القضية، لكنهم لم يوردوا شيئا من الأشعار محل الخلاف والمناقشة مكتفين بالكلام النظرى فيها.

وبالمثل كان الانطباع الذى شعرتُ به بمجرد قراءة تلك الأشعار هو أنها أقرب إلى النظم الذى وضع صاحبُه أمام عينيه آياتِ القرآن الكريم وأخذ يجتهد فى تضمينها ما ينظم من أبيات: فالكلام مهلهل وغير مستوٍ، وفيه فجوات يملؤها الناظم بما يكمّل البيت بأى طريقة والسلام، على عكس شعر أمية فى رثاء قتلى المشركين ببدر مثلا أو مدائحه لعبد الله بن جدعان.

وغنى عن القول ألاّ وجه لمقارنة هذا الشعر بأسلوب القرآن وما يتسم به من فحولة وجلال وشدة أسر وسحر ينفذ إلى القلوب نفوذا غلابا قاهرا، وهو ما يجعل القول بتأثر شعر أمية بالقرآن لا العكس هو ما يمليه المنطق وتَهَشّ له العقول والضمائر إذا صحَّت نسبة هذه الأشعار له. ومع ذلك كله فلسوف أسلك الطريق الصعب فأفترض أن تلك الأشعار محلَّ الخلاف هى أشعار صحيحة قالها أمية فعلا، وأن الأحداث التى رافقت نظم هذه القصائد هى بالتالى أحداث صحيحة وقعت هى أيضا.

والآن لو تتبعنا أهم الأحداث فى حياة المصطفى وأمية مما يتصل بهذه القضية فماذا نجد؟ أول كل شىء أن شاعرنا كان، كما جاء فى الروايات التى تحدثت عنه، يتوقع أن يكون هو النبى المنتظر، وأنه حين علم أن النبوة تجاوزته لم يستطع صبرا على المُقام بالطائف على مقربة من الرجل الذى كان حُكْم القدر أن ينزل عليه وحى السماء، فأخذ ابنتيه وهرب إلى اليمن. ومعنى ذلك أنه هو الذى كان مشغولا بمحمد لا العكس.
وهذا أحرى أن يجعله متنبها لكل ما يتعلق بمحمد، وعلى رأسه القرآن، الذى كان يتمنى بخلع الضرس بل بِفَقْءِ العين أن يكون هو النبى الذى يتلقاه ويبلغه للناس، حرصا منه على الشهرة والسمعة والمكانة بين قومه، جاهلا فى غمرة حماقته وحسده الأسود العقيم أنه سبحانه وتعالى "أعلم حيث يجعل رسالته". ومن المنطقى جدا، كما أومأنا، القول بأنه لم يستطع أن يتجاهل الرسول رغم غيظه، بل قل: بسبب غيظه من عدم اختياره هو نبيا للعرب، وأنه كان يتصيد الآيات والسُّوَر التى تنزل على الرسول ويضعها نصب عينيه وهو يَنْظِم شعره، جَرْيًا على المثل الشعبى القائل: "إن فاتك المِيرِىّ تمرَّغْ فى ترابه".

إنه "عبده مشتاق" الجاهلى، الذى يمكن أن نرى فيه رائدا لـنظيره فى كاريكاتير جريدة "الأخبار" القاهرية، مع بعض التلوينات المختلفة هنا وهناك تبعا لاختلاف طبيعة الدور الذى يريد كل من هذين العبدين أن يؤديه والظروف التى يتحرك فى نطاقها! ولقد فاتته النبوة، فليضمّن نصوصَ وحيها إذن شعره، فهذا أفضل من أن "يخرج من المولد بلا حمّص"! وهو حين يصنع هذا إنما كان يجرى على عادته قبل سطوع بدر الإسلام من العكوف على الكتب الدينية السابقة والاقتباس منها فيما يَنْظِم من أشعار.
فهو إذن لا يفترع طريقا جديدا حين يقتبس من القرآن، بل يستمر فى سبيله القديم. والطبع غلاب كما يقولون! ولا أدرى فى الواقع لماذا، بدلا من هذا الهروب غير المجدى من الطائف، لم يواجه محمدا ويقول له فى وجهه إنه قد سبقه فى شعره إلى ما يقوله هو فى قرآنه، وإن هذا دليل على أنه ليس نبيا حقيقيا، ومن ثم فهو أفضل منه، على الأقل من ناحية العلم والحكمة.

ألم يكن هذا هو ما يقتضيه المنطق لو كان عند أمية ذلك الدليل القاهر الذى يلوّح به بعض المستشرقين ويتابعهم عليه، فى غباءٍ لا يليق بمن عنده مسكة من عقل، مبشّرو آخر الزمان، ومن خلفهم ذيول المسلمين الذين فقدوا كل معنى من معانى الكرامة والرجولة؟ ومن الواضح أن الرجل كان يحب الظهور بمظهر العالم الحكيم، هذا الوصف الذى وصفه به خطأً بعض من ترجموا له من القدماء، إذ لو كانت الحكمة من صفاته حقا لما ترك الحسدَ يطوّحه ويقلقله فى بلاد العرب جنوبا وشمالا وشرقا وغربا كراهيةَ أن يكون على مقربة من الرجل الذى آثرته السماء عليه فى مسألة النبوة (وإن ذكرتْ بعضُ الروايات، حسبما رأينا، أنه وفد عليه فى مكة واستمع إلى ما تلاه عليه من قرآن وقال كلاما طيبا فى حقه)، ولأَقْبَلَ بدلا من ذلك عليه بجْمْع قلبه وإخلاصه ما دام يرى أنه على الحق كما يشير إلى ذلك الشعر الذى يتحدث فيه، قبل البعثة النبوية، عن حاجة البلاد لنبى يأخذ بيدها فى طريق الهداية، وكذلك القصيدة التى قالها فى مدحه عليه الصلاة والسلام والدين الذى أتى به.

بَيْدَ أنه، لحَِظّه التعيس، لم يحزم أمره، وظل مترددا يقترب بقلبه حينًا بعد حينٍ من الدين الجديد، لكنه سرعان ما تثور به عقارب الحقد فيبتعد عنه...إلى أن أقبل أخيرا فى نوبة قوية بعض الشىء من نوبات يقظته الخلقية والروحية ليعلن إسلامه رسميا، فوقفت قريش فى طريقه وأخبرته بأن المسلمين قتلوا عُتْبة وشَيْبة ابنى ربيعة وغيرهما من رجالات الطائف ممن كانوا يمتّون إليه بواشجة القرابة، فما كان منه إلا أن لوى عِنَان فرسه مبتعدا عن طريق النور والسعادة حاكما بذلك على نفسه ببؤس المصير إلى الأبد، وهو ما يدل بأجلى بيان على أنه لم يحزم أمره يوما، وهذه هى مشكلته المزمنة مع نفسه، فأين الحكمة هنا إذن؟

أما العلم فإن نصيبه منه لا يخرج، فيما هو واضح، عن نقل النصوص والقصص من كتب الأمم السابقة إلى شعره دون الانتفاع الحق بها، فهو إذن كالحمار يحمل أسفارا، وإلا فلماذا لم يستفد بها فى اتّباع الحق الذى كان يؤمن به فى أعماق قلبه، وفضّل عليه الانحياز إلى الوثنية ممثلةً فى أقاربه الذين رثاهم ومجَّدهم حين سقطوا وهم يحاربون تحت رايتها ضد التوحيد، وزاد فشقّ جيوبه عليهم وبكى وجدع أنف ناقته كما كان يفعل أهل الجاهلية الجهلاء حسبما ذكرت كتب السيرة وتاريخ الأدب (د.جواد على/ المفصَّل فى تاريخ العرب قبل الإسلام/ 6/ 479)، وهو الذى طالما صدّع أدمغتنا من قبل بالحديث عن الحنيفية؟ ولْنقارن بين موقفه هذا وموقف النبى عليه السلام حين أسلم وَحْشِىّ قاتل عمه الغالى وأخيه من الرضاع حمزة بن عبد المطلب، وكذلك هندٌ آكلة الأكباد ومدبّرة مقتله المأساوى رضى الله عنه.

لقد قَبِلهما النبى فى دينه، وكأن شيئا لم يكن، رغم الجرح الغائر الذى خلّفه موت سيد الشهداء فى قلبه، وذلك نزولا على مبدئه العظيم القائل بأن "الإسلام يَجُبّ ما قبله".

أو لماذا لم يقم هو بالدعوة إلى ما كان يؤمن به (حسبما نقرأ فى الشعر المنسوب إليه)، ولو فى أضيق نطاق بين قومه فى الطائف فقط ما دام ادعاء النبوة سهلا إلى هذا الحد كما فعل محمد، الذى لم يكن قارئا كاتبا مثله؟ فانظر وقارن يتبين لك الفرق بين النبوة والحسد الذى يأكل قلب صاحبه أكلاً فلا يتركه يهنأ بحياته أبدا!

أما المحطة الثانية التى نحب أن نقف عندها فهى ذهاب رسول الله إلى الطائف حين شعر أن مكة تستعصى على دعوته بغباء غريب ما عدا القليلين الذين دخلوا فى دعوته رغم التضييق والعنت الشديد والأذى المتواصل، فحَسِبَ أن الطائف قد تكون أحسن استقبالا للدين الجديد، لكن أهلها للأسف لم يكونوا أفضل حالا من قومه فى مكة. ترى لو كان أمية قد سبق القرآن إلى تناول الموضوعات التى نقرؤها فى ذلك الكتاب بنفس الألفاظ والعبارات فى كثير من الأحيان، ومن ثم أخذ محمد بعض قرآنه من شعره، أكان يفكر مجرد تفكير فى السفر إلى بلد ذلك الشاعر معرضا نفسه للسخرية والاتهام من جانب أهلها بدلا من إقبالهم عليه ودخولهم فى دينه؟

إنه إذن لـ"كالمستجير من الرمضاء بالنار" كما جاء فى أمثال العرب، أو كمن "جاء يُكَحِّلها فأعماها" كما يقول المثل الشعبى! ولم يكن الرسول يوما بالشخص الذى يمكن أن يقع فى مثل هذا التصرف الأخرق العجيب، بل لم يتهمه أحد من أَعْدَى أعدائه بشىء من ذلك قط! ثم فلنفترض بعد هذا أنه قد ارتكب هذا التصرف الأحمق (وأستغفر الله العظيم على هذا التعبير الذى اقترفتُه لأكون فى غاية السماحة مع "الأنعام" الذين لهم قلوب لكن لا يعقلون بها، ولهم أعين لكن لا يبصرون بها، ولهم آذان لكن لا يسمعون بها!)،

فكيف فات الطائفيين الأمرُ فلم يجابهوه ويجبهوه بهذه السرقة التى كانت كفيلة بقصم ظهر الدعوة التى أتى بها بدلا من إغرائهم صبيانهم وعبيدهم وسفهاءهم بمطاردته بالحجارة فى شوارع المدينة حتى أخرجوه منها منتهكين بتصرفهم الوحشىّ هذا ما توجبه التقاليد العربية الراسخة القاضية بإكرام الضيف الوافد، واضطروه إلى اللجوء إلى بستانٍ لعُتْبة وشَيْبة ابنى ربيعة حيث قابل هناك خادمهما عداس، الذى قدّم له قِطْفا من العنب يتقوّت به ويزيل عن نفسه التعب، ثم أقبل عليه فى حب وإجلال حين رآه يسمّى الله قبل الطعام وعرف شيئا من دينه على ما هو معروف لقارئى السيرة النبوية؟

ثم هناك قدوم أمية على النبى ومدحه إياه بقصيدة يقرّه فيها على دعوته ويثنى عليه ويصدّق به. ويبدو أن ذلك كان بتأثير الأسئلة التى من المؤكد أنها كانت توجَّه له ممن حوله، إذ لا بد أن يثور فى أذهانهم التساؤل عن السبب، يا ترى، الذى يمنعه من الإيمان بمحمد ما دام يردد ما يقوله تقريبا ويضمّن شعره بعض ما جاء فى قرآنه! أقول هذا رغم أن فى نفسى من صحة هذه القصيدة شيئا للأسباب التى سأذكرها من فورى، لكننى قلتُه على الشرط الذى وضعتُه حين بينتُ أنه لكى نقبل أشعار أمية التى تشابه القرآن الكريم لا بد أن نقبل معها الأحداث التى صاحبتها حسبما أوردتها الروايات. على أية حال هأنذا أورد جُلّ أبيات القصيدة أولا، ثم ننظر فيها بعد ذلك:

لك الحمد والمنّ رب العبا * د. أنت المليك وأنت الحَكَمْ

ودِنْ دين ربك حتى التُّقَى * واجتنبنّ الهوى والضَّجَمْ

محمدًا ارْسَلَه بالهدى * فعاش غنيا ولم يُهْتَضَمْ

عطاءً من الله أُعْطِيتَه * وخصَّ به الله أهل الحرمْ

وقد علموا أنه خيرهم * وفى بيتهم ذى الندى والكرمْ

نبىُّ هدًى صادقٌ طيبٌ * رحيمٌ رءوف بوصل الرَّحِمْ

به ختم الله من قبله * ومن بعده من نبىٍّ ختمْ

يموت كما مات من قد مضى* يُرَدّ إلى الله بارى النَّسَمْ

مع الأنبيا فى جِنَان الخلو * دِ، هُمُو أهلها غير حلّ القَسَمْ

وقدّس فينا بحب الصلاة * جميعا، وعلّم خطّ القلمْ

كتابًا من الله نقرا به * فمن يعتريه فقدْمًا أَثِمْ

(أمية بن أبى الصلت- حياته وشعره" لبهجة عبد الغفور الحديثى/ 260- 264)

وقد رفض د. جواد على هذه القصيدة على أساس أن ما فيها من إيمان قوى بالنبى ودينه يتناقض مع ما نعرفه من تردد أمية بالنسبة للإسلام وافتقار قلبه إلى الإيمان العميق، وأنه يشير فيها إلى وفاة الرسول التى لم تقع إلا بعد موت أمية أوّلا (المفصَّل فى تاريخ العرب قبل الإسلام/ 6/ 497- 498). لكن بهجة الحديثى لا يشك فى القصيدة، بل يرى أنها تمثل خطرة من الخطرات التى كانت تنتاب أمية، فالمعروف أنه لم يكفر بالرسول تكذيبا بل حسدا، إذ كان فى دخيلة نفسه مصدِّقا بما جاء به، بل همّ أن يعلن إسلامه فعلا.

كما أن الأنطاكى، الذى كان يعيش فى القرن الثالث الهجرى، قد أكد أنها موجودة فى شعره ومفهومة عند أهل الخبرة به (أمية بن أبى الصلت/ 78- 79). والحق أن الحجة الأخيرة تكاد تكون العقبة الوحيدة التى تمنعنى من القطع بزيف هذه القصيدة رغم ما فيها مما يدابر المنطق: فهى تتحدث عن اختتام النبوة بمحمد عليه السلام، وهى قضية لم تكن قد طُرِحَت بعد، لأن القصيدة لا بد أن تكون قد سبقت غزوة بدر على آخر تقدير حيث حسم أمية أمره بعد تلك الغزوة وشقَّ جيوبه وعقر ناقته وتراجع نهائيا عن الدخول فى الإسلام، على حين أن الإشارة إلى أن نبوة محمد هى خاتمة النبوات قد وردت فى سورة "الأحزاب"التى نزلت بعد ذلك بزمن طويل على ما هو معروف.

أما ما جاء فى القصيدة من ذكر موت النبى فلا يعنى بالضرورة أنه قد مات فعلا، إذ الكلام يحتمل هذا، كما يحتمل أنه سيموت كسائر البشر حسبما جاء فى قوله تعالى: "إنك ميتٌ، وإنهم ميتون" (الزُّمَر/ 30)، إذ أتى الفعلُ الدالّ على الموت فى القصيدة فى صيغة المضارع لا الماضى كما لا بد أن يكون القارئ قد لاحظ، رغم أن فى ذكر الموت فى حد ذاته فى هذا السياق كثيرا من الغرابة والخروج على مقتضيات المديح.
كذلك فوصف الرسول بأنه "رحيم رءوف" هو صَدًى لوصفه فى القرآن فى الآية قبل الأخيرة من سورة "التوبة" بهاتين الصفتين، وإن جاءتا فى القصيدتين بعكس ترتيبهما فى السورة، والآية المذكورة تنتمى لمرحلة زمنية متأخرة عن تاريخ نظم القصيدة. ‏كذلك ففى القصيدة صَدًى لقول رسول الله فى حديث أبى هريرة: "لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فيَلِج النار إلا تحلَّة القسم"، والمقصود الإشارة إلى قوله تعالى فى الآية 71 من سورة "مريم": "وإنْ منكم إلا وارِدُها.كان على ربك حتما مقضيًّا"، ومعروف أن أبا هريرة إنما أسلم فى المدينة فى السنة السابعة للهجرة، أى بعد نظم أمية قصيدته بأعوام، فكيف يمكن أن يتأثر أمية بحديث كهذا لم يكن قد قيل إلا بعد ذلك ببضع سنوات؟

وأنا هنا، كما يلاحظ القارئ، أنطلق من أن القصيدة هى التى تأثرت بالقرآن لا العكس ما دام أمية قالها فى مدح النبى والتصديق بدعوته، إذ معنى هذا أنه لم يكن يرى فى القرآن أى أثر لشعره، وإلا ما فكر فى مدحه عليه السلام بتاتًا، بل فى هجائه وفَضْحه. ثم إن فى النظم هَنَاتٍ لا يقع فيها جاهلىٌّ عادة: فقد جاءت كل من كلمتى "أرسله" و"الأنبياء" فى القصيدة بهمزة، وهو ما يحدث اضطرابا فى موسيقى البيتين اللذين وردت الكلمتان فيهما، إلا إذا حذفنا الهمزتين كما فعلت أنا هنا، فعندئذ نشعر على الفور أننا بإزاء شعر إسلامى صوفى مما يصعب انتماؤه للعصر الأموى أو حتى بدايات العباسى.

لكن هل يمكن أن يكون هذا قد فات ابن داود الأنطاكى؟ تلك هى المعضلة. إلا أننا لو استحضرنا فى المقابل أن كبار مؤرخى الأدب ونقاده فى تلك الفترة، وهم العلماء الذين شغلتهم قضية الانتحال فى الشعر الجاهلى والمخضرم كابن سلام وابن قتيبة والجاحظ وأبى الفرج وابن هشام، لم يَرْوُوا شيئا من هذا الشعر لأمية، لوجدنا أنها ليست بالمعضلة التى تستعصى على الحل. وأيا ما يكن الأمر فكما قلت: إن من يريد منا أن نقبل نسبة الأشعار محل الدراسة لأمية فلا بد أن يقبل معها الأحداث المصاحبة لها فى الروايات التى أوردتْها لنا.
ومما تقوله الروايات عن النبى وأمية أيضا ذلك اللقاء الذى تم بينه صلى الله عليه وسلم وفارعة أخت الشاعر حينما جاءته عند دخوله الطائف فى السنة التاسعة للهجرة وحكت له قصة أخيها وأنشدته من شعره بناءً على طلبه، وما عقَّب به عليه السلام قائلا: "يا فارعة، إن مَثَل أخيك كمَثَل من آتاه الله آياته فانسلخ منها" (ابن حجر/ الإصابة فى معرفة الصحابة/ مطبعة مصطفى محمد/ القاهرة/ 1939م/ 4/ 363، والاستيعاب فى معرفة الأصحاب/ مطبعة مصطفى محمد/ القاهرة/ 1939م/ 4/ 379).

هل يعقل أنه صلى الله عليه وسلم يسعى إلى فتح ملفّ أمية ويقول فيه هذه الكلمة القارصة، وعلى مسمع من أخته، وفى أشد اللحظات على أهل الطائف وطأةً لأنها لحظة انكسار وانهزام، لو كان قد استمد شيئا من قرآنه من شعر الرجل؟ إنه فى هذه الحالة كمن يمد يده فى جحر الثعابين والعقارب معرِّضا نفسه لخطر الهلاك الوَحِىّ دونما أدنى داع، ومعاذَ الذكاء المحمدى أن يفوته عليه السلام ما ينتظره من الخطر فيقدم على التصرف بمثل هذا التهور! ونفس الشىء نقوله عن موقفه من الشريد بن الصامت، إذ لماذا يشجعه صلى الله علي وسلم على الاستمرار فى إنشاد الشعر الذى من شأنه أن يفضح دعواه لو كان أمية قد قاله فعلا قبل القرآن، واستمد هو قرآنه منه؟ بل لماذا ينشد سويد أمامه شعر أمية أصلا لو كان متطابقا مع القرآن هذا التطابق الذى يدل على استمداده منه؟ بل كيف لم يتنبه لهذا التشابه ولم يختلج على الأقل ضميره بالشكوك والوساوس؟

ولنفترض بعد ذلك كله أنه صلى الله عليه وسلم قد أقدم على هذا التصرف الخاطئ فى الحالين، فكيف لم يصدر عن الطرف الآخر أى شىء يُلْمِح إلى أسبقية شعر أمية على القرآن أو حتى إلى مجرد المشابهة بين النصين ولو على سبيل فلتات اللسان؟

وعندنا من الثقفيين، غير فارعة أخت شاعرنا، كنانة بن عبد ياليل، وكان رئيس ثقيف فى زمانه، واشترك مع أبى عامر الراهب العدو اللدود للإسلام فى التآمر على الدين الجديد وصاحبه، ولم يتركا سبيلا إلا وسلكاه لبلوغ هذه الغاية حتى إنهما ذهبا إلى قيصر للاستعانة به ضد الإسلام. ولما فشلا بقى أبو عامر فى الشام، وعاد ابن عبد ياليل بعد تطواف هنا وهناك وأعلن إسلامه.
ويقال إنه كان من بين المرتدين، ثم رجع إلى الإسلام مرة أخرى. والسؤال الذى يتبادر إلى الذهن لو كان الرسول قد أخذ شيئا من شعر أمية هو: كيف سكت مِثْلُ كنانة فلم يتخذ من هذا الأمر سلاحا يوجهه إلى قلب الإسلام فى مقتل فيريح نفسه وقومه والعرب جميعا من هذا البلاء الذى أرَّقهم وأزعجهم بدلا من الضرب فى الآفاق والاستعانة بمن يساوى ومن لا يساوى؟ أليس هذا هو ما كان ينبغى أن يمليه المنطق على مثل ذلك الزعيم القبلى؟ لكنه لم يفعل، فعلام يدل هذا؟ أيعقل أن يكون بيده ذلك السلاح الحاسم ولا يفكر فى استخدامه على طول ما حارب الإسلام وكثرة ما تآمر ضده؟ (ابن حجر/ الإصابة فى معرفة الصحابة/ 2/ 496، و3/ 305).

وكان عروة بن مسعود الثقفى قد بكَّر بالدخول فى الإسلام قبل قومه بزمن، فأراد من حبه لهم أن يهديهم الله على يديه، فاستأذن الرسولَ عليه السلام أن يأتيهم فيدعوهم إلى الدخول فى دين التوحيد، لكنه صلى الله عليه وسلم حذره من أنهم سيقتلونه. إلا أنه لم يكن يتصور أنهم يمكن أن يعادوه ويتأبَّوْا عليه اعتقادا منه أنهم يحبونه ويكرمونه أشد الإكرام، فعاود الاستئذان، والرسول يحذره، ثم أذن له فى الثالثة ليذهب إليهم ويلقى المصير الذى حاول الرسول أن يجنبه إياه، إذ ما إن بدأ يدعوهم إلى الإسلام حتى اجتمعوا إليه من كل جانب ورَمَوْه بالنبل فقتلوه، رضى الله عنه (أبو نعيم الأصفهانى/ دلائل النبوة/ ط2/ حيدر أباد الدكن/ 1950م/ 467).

أولو كان الرسول قد أخذ قرآنه من أمية ابن الطائف التى طال استعصاؤها على الإسلام إلى وقت متأخر، أكان عروة يدخل فى دينه مخالفا قومه بهذه البساطة؟ بل أكان الرسول يرضى أن يذهب إليهم هذا المندفع الذى لا يفكر فى العواقب، ومعروف أن أول ماسيجيبونه به هو: أوقد نسيت أن الرسول الذى تدعونا إلى الإيمان بدينه ليس سوى سارق لشعر شاعرنا، أخذه وزعم أنه قرآن يُوحَى إليه من السماء؟ وحتى لو لم يفكر أى منهما فى تلك النتيجة التى لا يمكن أن يتجه الذهن إلى أى شىء غيرها، أكانت ثقيف تدع تلك الفرصة السانحة دون أن تتهكم بعروة على غفلته وتحمسه لدين يقوم على هَبْش النصوص الشعرية من الشعراء الآخرين والزعم بأنه وحى من عند رب العالين؟

وهناك أيضا من مشاهير الثقفيين الشاعر أبو محجن، الذى كان مدمنا للشراب، وكان يتأرجح بين عشقه المتوله للخمر وتحرجه الدينى، وإن كان للعشق الغلبة فى بداية أمره حتى لقد حُدَّ فيها مرارا، ونفاه عمر إلى إحدى الجزر...إلى أن جاءت حرب القادسية، وقصته فيها معروفة، إذ كان ساعتها فى القيد فى بيت سعد بن أبى وقاص (قائد المسلمين فى تلك المعركة) بسبب الخمر انتظارا لإيقاع الحدّ عليه، فأخذ يلحّ على امرأة سعد من وراء زوجها أن تحل وثاقه كى يستطيع المشاركة فى الجهاد فى سبيل الله، ولها عليه عهد الله أن يعود من تلقاء نفسه بعد المعركة فيضع رجليه فى القيد كرة ثانية، حتى نجح فى إقناعها فأطلقته فحارب وأبلى فى الحرب بلاء حسنا وانتصر المسلمون، فكان عند كلمته وعاد فوضع رجليه فى القيد، ثم أعلن توبته النهائية عن أم الخبائث بعد أن أبدى سعد إعجابه به ووعده أنه لن يحده أبدا، إذ صرَّح قائلا إنه يستطيع الآن أن يقلع عنها دون الخوف من أن يقول أحد عنه إنه تركها خشية العقاب. ولا يزال ديوانه يمتلئ بالأشعار التى يتغزل فيها فى بنت الكَرْم متمردا على تحريمها فى دين محمد.

بل إنه كان أحد الذين دافعوا عن الطائف أثناء حصار المسلمين لها عقب فتح مكة، وأصاب سهمه فيها ابنًا لأبى بكر (الزركلى/ الأعلام/ ط3/ 5/ 243، ودائرة المعارف الإسلامية/ الترجمة العربية/ 2/ 597- 598، وديوان الشاعر، وبهجة عبد الغفور الحديثى/ أمية بن أبى الصلت/ 42- 43). والسؤال هنا أيضا: كيف لم يتحدث مثل هذا الشاعر عن استعانة الرسول بشعر ابن قبيلته ولو فى نوبة من نوبات تهتكه وتمرده على تحريم الإسلام الصارم لأم الخبائث، أو فى شعره قبل دخوله فى الإسلام؟

ثم لدينا من الثقفيين أيضا الحجاج بن يوسف، الذى كان معلما للقرآن فى بداية حياته كأبيه لا يبتغى بذلك مالا، بل احتسابًا عند الله، ثم أصبح فيما بعد أحد عمال بنى أمية الكبار.

وهو الذى أدخل على نظام الكتابة العربية المزيد من الإتقان والضبط، إذ عهد إلى نصر بن عاصم بإعجام الخط، أى وَضْع النقاط للتمييز بين الأحرف المتشابهة كالباء والتاء والثاء، والجيم والحاء والخاء...طلبًا لمزيد من الدقة والتسهيل فى قراءة القرآن، الذى يدَّعى بعض الرُّقَعاء أنه مقتبَس فى بعض مواضعه من شعر أمية. كما كان، رغم كل ما قيل عن قسوته أيام ولايته على العراق، من المداومين على قراءة القرآن. وكذلك كان يشجع بكل وسيلة على حِفْظه، ويُدْنِى منه حُفّاظه (أحمد صدقى العَمَد/ الحجاج بن يوسف الثقفى- حياته وآراؤه السياسية/ دار الثقافة/ بيروت/ 1975م/ 86- 87، 96، 474، 477- 478، وهزاع بن عيد الشّمّرى/ الحجاج بن يوسف الثقفى- وجه حضارى فى تاريخ الإسلام/ دار أمية/ الرياض/ 44).

والآن ألا يحق لنا أن نتساءل: ما الذى جعل الحجاج يتحمس لدين محمد كل هذا التحمس لو كان هناك ولو ذرة واحدة من الشك تحوم حول مصدر هذا الكتاب، وبخاصة أن المصدر فى هذه الحالة لن يكون شيئا آخر غير شعر ابن القبيلة التى يعتزى هو إليها؟ لا ليس ابن قبيلته فقط، بل هو ابن خالة جده الرابع لأمه: معتب بن مالك (انظر فى نَسَبه "الحجاج بن يوسف الثقفى- وجه حضارى فى تاريخ الإسلام" لهزاع بن عيد الشّمّرى/ 15).

ولا يظنَّنّ أحد أن شعر أمية لم يكن يهم الحجاج لانشغاله بالسياسة وما يتصل بها، فقد رُوِىَ عنه قوله: "ذهب قوم يعرفون شعر أمية، وكذلك اندراس الكلام" (د. جواد على/ المفصَّل فى تاريخ العرب قبل الإسلام/ 6/ 483 )، أى أن نصوص الشعر والأدب إنما تضيع بذهاب من يحفظونها. وههنا نقطة مهمة جدا، ألا وهى أن شعر أمية قد ضاع، على أقلّ تقدير،ٍ جانبٌ كبير منه قبل الحجاج، فكيف وصلنا إذن كل هذا الشعر الذى يشابه القرآن إذا كان واحد من أقرب من تصله به رابطة الدم يشكو من ضياعه على هذا النحو؟

وأهم من ذلك كله دلالةً على ما نريد من أن القضية التى يثيرها الفارغون الجهّال من المبشرين ومَنْ لَفَّ لفَّهم من أبناء المسلمين الذين ختم الله على قلوبهم وعقولهم وأعينهم، فهم لا يفكرون ولا يستمعون إلا لكل مغرض ممن يريد أن يقضى عليهم وعلى أمتهم، إنما هى زوبعة فى كستبان لا أكثر، أن الفارعة أخت أمية، وأبناءه القاسم وأمية وربيعة ووَهْبًا، قد دخلوا مع ثقيف كلها فى الإسلام، وكان القاسم وأمية وربيعة يقولون الشعر، ولم يُؤْثَر عن أى منهم ولا من غيرهم ممن كان يمتّ بصلة نسب إلى أميّة أية كلمة تومئ مجرد إيماء إلى أن الرسول يمكن (يمكن فقط) أن يكون قد استفاد من شعر ذلك الشاعر على أى نحو من الأنحاء.

ودعك من أن مجرد اعتناقهم الإسلام هو فى حد ذاته برهان على تكذيبهم بأبيهم وانحيازهم إلى محمد، وهو ما ينقض ما يهرف به الأغبياء المحترقون حقدًا على دين محمد من أن القرآن هو فى بعض جوانبه اقتباس من شعر متحنّف الطائف. كما أن كثيرا من العرب قد ارتدّ بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وكان لكل قبيلة تعلاتها السخيفة التى تحاول أن تسوّغ بها هذه الردة، لكننا لم نسمع قطّ أن أحدا ممن ارتدّ قد فتح هذا الموضوع. بل إن قبيلة ثقيف قد هَمَّتْ بالارتداد، لولا أن عثمان بن العاص كرّه إليهم الإقدام على مثل ذلك التصرف الذى لا يليق، فما كان منهم إلا أن فاؤوا إلى رشدهم ولم يعودوا إليها، بل كان منهم كثيرون حاربوا المرتدّين بكل إخلاص.

وهنا أيضا لم نسمع أية نأمة حول الاستفادة المحمدية المزعومة من شعر أمية! ليس ذلك فحسب، فهناك، كما أشار د. جواد على (فى كتابه: "المفصَّل فى تاريخ العرب قبل الإسلام"/ 6/ 493)، يوحنا الدمشقى مثلا، وهو من أوائل من كتب من النصارى مهاجما الإسلام، وكان معاصرا لدولة بنى أمية. أفلو كان لهذه الشبهة أىّ ظل من الحقيقة مهما ضَؤُل، أكان هذا الراهب المتعصب على الإسلام، والذى يريد أن يهدمه على رؤوس أصحابه ويثبت بكل وسيلة أن محمدا لم يكن نبيًّا صادقًا، يُفْلِت تلك السانحة الغالية ويسكت فلا يستخدم هذه الورقة الجاهزة والرابحة بكل يقين؟

بهذا تكون القضية قد ظهرت على وجهها الحقيقى: فلا أمية ولا أى واحد من أبنائه أو أقاربه أو قبيلته أو حتى من العرب، بل ولا من النصارى واليهود الذين عاصروا النبى أو جاؤوا بعده بقليل، قد أثار هذا الأمر على أى وضع. أليس لنا الحق بعدئذ فى أن نصف من يفتح هذا الموضوع الآن بالرقاعة والوقاحة؟

إن ذلك بمثابة رفع دعوى من غير ذى صفة، بل من شخص لا يستند إلى أى توكيل من أىٍّ من أصحاب الشأن رغم أن الظروف كلها من شأنها أن تدفع أصحاب الشأن هؤلاء إلى الكلام لو كان لتلك المزاعم أساسٌ أىّ أساس! خلاصة القول إنه ليس أمامنا فى هذه المسالة إلا أمران: فإما قلنا بزيف نسبة هذه الأشعار إلى أمية، وإما قلنا إنه قد نظمها تقليدا لما جاء فى القرآن.

لكن د. جواد على يرفض الاحتمال الثانى ولا يرى إلا احتمالا واحدا هو زيف الأشعار المعزوّة إلى أمية. ومن بين ما اعتمد عليه فى هذا الرأى أن النبى عليه السلام لم يتهم أمية بالأخذ منه (المفصَّل فى تاريخ العرب قبل الإسلام/ 6/491).

وأنا، وإن كنت أميل إلى رأى الأستاذ الدكتور، لا أستطيع أن أنبذ الرأى الآخر مائة فى المائة لعدم توفر دليل قاطع على صحته، ولكيلا أترك فرصة لأى جَعْجَاع يريد أن يُجْلِب على القرآن والرسول، فكان لا بد أن أسدّ هذه الثغرة. ومن هنا فإنى أجيب على الحجة التى ساقها د. جواد بالقول إن النبى عليه السلام أكبر من أن يقف عند هذه الأشياء، وبخاصة أنه قد نزل عليه القرآن كى يفيد منه الناسُ أيا كان نوع تلك الإفادة لا ليشمخ به عليهم. ثم إن القرآن ليس ملكا للرسول بل هو كتاب الله، فماذا كان يمكن للرسول أن يقول لأمية فى هذه الحالة، وبالذات إذا علمنا أن أمية لم يواجهه بل اكتفى بالازورار؟

وحتى هذا الازورار لم يكن كاملا، فقد جاء فى بعض الروايات أنه وفد عليه ذات مرة واستمع منه إلى سورة "يس"، وشهد له بالحق، وأنه، عند عودته من الشام، قد أخذ طريقه إلى المدينة ليعلن الدخول فى دين محمد لولا تحريض المشركين له بإثارة نقمته على الرسول جرّاء مقتل بعض أقاربه على يد المسلمين فى بدر حسبما جاء فى "الإصابة" لابن حجر و"مجمع البيان" للطَّبَرْسِىّ وغيرهما (د. جواد على/ المفصَّل فى تاريخ العرب قبل الإسلام/ 6/ 486).

أما إذا كان لا بد من أن يردّ عليه النبى رغم ذلك كله، أفلا يكفينا ما رُوِىَ عنه صلى الله عليه وسلم من قوله فيه: "آمن شعره، وكفر قلبه" أو "آمن لسانه، وكفر قلبه" (صحيح مسلم من كتاب "الشعر". وقد أورده الدكتور جواد نفسه فى "المفصّل فى تاريخ العرب قبل الإسلام "/ 485)؟ إذ معنى "آمن شعره أو لسانه" أنه كان يأخذ ما جاء فى القرآن ويردّده فى شعره ترديد المؤمن به، لكن حسده له عليه السلام قد منعه أن يعلن ذلك بصفة رسمية ونهائية، وهذا معنى كفران قلبه.

أما الاحتمال الثالث الذى طرحه بعض المستشرقين، كالمستشرق الألمانى شولتس ناشر ديوان أمية، من أن النبى وأمية قد استقيا كلاهما من مصدر ثالث مشترك فهو احتمال ليس له رِجْلان يمشى عليهما، إذ أين ذلك المصدر المشترك؟ ولِمَ لَمْ يظهر طوال كل هاتيك القرون؟ وكيف وقع كل منهما عليه، وبينهما كل هذا البعد المكانى والنفسى؟ ثم لماذا هما وحدهما بالذات من دون العرب كلهم بل من دون العالم أجمع؟


* مفكر مصري واستاذ بجامعة عين شمس

Ibrahim_awad9@yahoo.com

http://awad.phpnet.us/

http://www.maktoobblog.com/ibrahim_awad9