دراسة تشكك في منهجية وعلمية القمني:
قراءة نقدية لكتابات القمني عن القرآن(1-2)
منصور أبو شافعي / 20-07-2009
هذه الدراسة تضع شكًا معرفيا في منهجية وعلمية د.سيد القمني، ففي كتابات عديدة هاجم القمني من أسماهم بـ"المتفقهين من أهل شئون التقديس المستفيدين من الدين في مواقعهم الاجتماعية"، والذين يرفعون القاعدة التليدة: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، "لتشغيل القرآن ورب القرآن حسب الحال المرغوب، ينتهزون به النهز ويستنبطون منه حسب الطلب شهادات الشرعية للمواقف السياسية المتقلبة من النقيض إلى النقيض".
وأكد أن الذي "أعطى رجال الدين هذه الفرص والنهز" التي مكنتهم من "اختطاف القرآن وتحنيطه" هي "طريقة جمع المصحف التي اتبعتها اللجنة التي شكلها الخليفة عثمان بن عفان برئاسة زيد بن ثابت".
وأخذ الدكتور على هذه اللجنة أنها "لم تراع الترتيب الزمني للآيات، والأحداث، ولا جمعت الآيات مثلا حسب نوع الموضوع كجمع الآيات القانونية معا، والعبادية معا، والتسبيحية معا، والإرشادية معا".
إنما اتبعت (اللجنة) أسلوبا يبدأ بأطول السور ويتدرج حتى ينتهي بأقصرها، علما أن قصار السور كانت هي الأولى زمنا، فتجد سورة مدنية تعقبها مكية، تعقبها مدنية، وتتضمن السورة الواحدة خلطا بين ما هو مكي وما هو مدني، وإذا المنسوخ يتلو الناسخ، وآيات تبحث في مواضيع لا رابط بينها.
مما كان سببا للتخبط وسوء الفهم عند المسلم العادي، ووسيلة للانتهازية بسوء النية عند القائمين على شئون التقديس في بلادنا الذين (كما يقول الدكتور) يعلمون يقينا أن ترتيب السور والآيات كان عمل البشر ولا يتمتع بأية قدسية، ولم تذكر كتب السير أن الوحي نزل على زيد بن ثابت ولجنته ليرتبوها (الآيات والسور) على شكلها الحالي.
وهكذا ظل الحال دون أي محاولة لإعادة النظر واتباع طريقة علمية في ترتيب المصحف عن قصد مبيت، وتم إكساب الشكل قدسية المضمون مع إغلاقه بالضبة ووضع المفتاح بيد فقهاء السلطان".
انتهاء صلاحية القرآن
ويطالب الدكتور بـ"رفع رجال الإكليروس الإسلامي يدهم عن الإسلام، والتوقف عن التحريم والتكفير، حتى يمكن إعادة النظر والترتيب والتصويب دون خوف اتهامات المروق والتخوين".
ويضيف: "على المسلم المؤمن قبول القرآن (ليس كما هو في المصحف)، وإنما كما كان في تاريخيته، تلك التاريخية التي يرفضها الإكليروس ليظل دينا خارج الزمان والمكان، وخشية الاعتراف بتطوره مع المتغيرات (...) مما قد يؤدي إلى إنكار المصدر الإلهي للقرآن، كما لو كان أحفظ عليه من الله (!) إضافة إلى الحرص التقليدي العجيب على مبدأ صلاحية القرآن لكل زمان ومكان، وهي التي تعني عندهم تثبيته وتحنيطه وإجبار الواقع المتغير على الاتفاق مع القرآن وهو ثابت!!
"وقد وضح لكل ذي عقل -كما يقول الدكتور- أن الواقع يجهر بانتهاء هذه الصلاحية بهذا المفهوم على يد رجال الدين لعدم تحركها مع الزمن... (والتي) تعلم الناس الكذب بالدين وللدين!!
لذلك فقد انتهى الدكتور إلى "أن الصلاحية الحقة تكون بفك لفائف التحنيط عن المقدس ليتكيف مع الواقع -وهو درس الإسلام الأول للأوائل- وليس العكس.
فقانون الحياة والكون هو التغير الدائب الذي لا يمكن لأحد إيقافه عند نقطة زمنية لا يريد أن يريم عنها حراكا، ولا سبيل سوى أن نتحرك عن ترتيب ما بأيدينا (من قرآن) وفهمه (بعد إعادة ترتيب آياته وسوره) وفهم ظرفنا الآني.
ورغم أن د. القمني وصف ما قاله -ونقلناه- بـ"الحقائق" ووصف من سيقبلها بـ"المسلم العارف" و"المسلم المؤمن"، ووصف من "ستزعجه" هذه "الحقائق" (القمنية) بالذي "يستخدم الإسلام وسيلة للكسب، والمناصب، والوجاهة، والقرب من السلطان، أو اقتناص هذا السلطان" (1).
وهي -كما نرى- لغة أقل ما توصف به أنها غير علمية، ورغم إمكانية رد ما قاله د. القمني -ونقلناه- إلى أصول استشراقية قصد أصحابها -بما قالوه- التشكيك في إلهية النص القرآني ذاتهن فإن بحثي أوصلني إلى معلومات شككتني بقوة في جدية دكتور القمني كباحث وفي علمية كتاباته، وما توصلت إليه (سواء في كتابات سابقة للأسف تهرب الدكتور من مناقشتها، أو في الكتابات الحالية) يضطرني -لقبول أو رفض ما قاله د. القمني عن حتمية إعادة النظر في جمع وترتيب آيات وسور المصحف- إلى مراجعة مدى جدية وعلمية موقفه (المادي) من القرآن ذاته، وهل هو نص إلهي مقدس أم هو نص بشري يمكن إرجاع لغته ومضمونه إلى منابع بشرية؟
وهذا يحتاج منا إلى بذل كل ما نستطيعه من جهد، ويحتاج من د. القمني لممارسة حقه الكامل في الاختلاف مع ما سنتوصل إليه من نتائج نعتقد أنها "صواب يحتمل الخطأ"، ويحتاج من القارئ بعض الصبر حتى نتواصل مع ما سبق.
القمني.. والقرآن
ولنبدأ في دراسة موقف د. القمني من "القرآن"، أرى -لنقترب كثيرا من عمق هذا الموقف- أن نبدأ بتأمل ما كتبه هذا الدكتور في كتابه "الحزب الهاشمي وتأسيس الدولة الإسلامية" عن "وعي عبد المطلب بن هاشم السياسي وبعد نظره وحسه القومي في قيادته وفدا إلى اليمن برفقة ابن أخيه أقية بن عبد شمس -قبل النزاع المشار إليه- وحلفائه أبي زمعة جد أمية بن عبد الله بن أبي الصلت -وسيكون لأمية هذا شأن- وخويلد الأسدي بن أسد بن عبد العزى، ومن الواجب ملاحظة امتداد ذلك التحالف في زواج حفيد عبد المطلب (النبي محمد) من السيدة خديجة بنت خويلد الأسدي"(2).
ولأن د. القمني -على غير الحقيقة- وصف طبعات كتابه (خصوصا طبعته في مجلد "الإسلاميات") بـ"المنقحة"، والمعروف أن التنقيح هو "التشذيب والتهذيب" و"نقح الكلام: فتشه وأحسن النظر فيه، وقيل: أصلحه وأزال عيوبه"(3).
فمن الواجب ملاحظة:
أولا: أن ما قاله د. القمني وكرره عن علاقة عبد المطلب بن هاشم بأمية بن عبد شمس "ابن أخيه أمية" وعن تبريره لذهاب أمية مع عبد المطلب إلى اليمن بـ"قبل النزاع المشار إليه" هو -بدون تحامل- قول لا يصدر عن باحث عاقل؛ لأن الثابت ليس فقط في "سجلات الإخباريين" التراثية بل في كتابات د. القمني نفسه أن عبد شمس بن عبد مناف (والد أمية) هو "أخو" (أي شقيق) هاشم بن عبد مناف (والد عبد المطلب) وأن "النزاع المشار إليه"، الذي نراه مجرد أسطورة ويلح د. القمني على تحويله لحقيقة، كان -كما قال د. القمني نفسه- بين "أمية وعمه هاشم".
ويصر الدكتور على دقة وصواب ما قاله وكرره، فهل ننتظر منه حذف وقائع الصراع بين هاشم وابن أخيه أمية من كل كتاباته، وإسقاط شخصية هاشم من التاريخ ليحل محله ابنه عبد المطلب في "عمومته" لأمية؟
وهل ننتظر منه نقل "نزاع" و"صراع" و"ثورة" أمية من زمن هاشم "الخرافي" ليوضع في زمن عبد المطلب "الحقيقي" وليكون مع وضد عبد المطلب و"بعد" رحلته "القومية" إلى اليمن التي كانت "بعد مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنين" كما اتفقت السجلات الإخبارية "التي روت خبر الرحلة"؟
أم أن هذا الدكتور وتبريره دقة وصواب ما قاله وكرره سيعيد "تنقيح" تاريخ هذه الرحلة بجعل عبد المطلب شقيقا لأبيه هاشم ليكون أيضا شقيقا لعمه عبد شمس، وبهذا "التنقيح" يكون عبد المطلب عما لأمية؟
أم أن الدكتور سيعيد "تنقيح" تاريخ هذه المرحلة بتجاهل ما قاله "هو" في نفس الكتاب عن موت هاشم وتركه "لولده عبد المطلب (ابن سبع سنوات وقيل ثمان) ينمو ويربى ويرضع الفروسية بين أخواله" في يثرب"(4)!!
والحقيقة ولأن د. القمني في نفس كتابه -وبعد رؤيته الخارقة- أمات عبد شمس قبل هاشم والثابت أنه مات بعده، وبنفس قدراته الخارقة جعل نزاع أمية مع عمه هاشم "بعد رحيل والده عبد شمس عن الدنيا"، والثابت في "سجلات الإخباريين" أن نزاع أمية كان في حياة والده (5) فأنا أكتفي بوضع علامة تعجب!!
ثانيا: أن د. القمني في حديثه عن الوفد القرشي الذي -كما قال- قاده عبد المطلب إلى اليمن تعمد نقل هذه الرحلة "القومية" بدون توثيق، وهذا التعمد غير المبرر علميا أغرانا بمراجعة الخبر في "سجلات الإخباريين" التي أخبرتنا بأن "خويلد الأسدي و"أبو زمعة" لم يكونا في الوفد القرشي المكون من عبد المطلب بن هاشم، وأمية بن عبد شمس، وعبد الله بن جدعان، وأسد بن عبد العزى، ووهب بن عبد مناف، وقصي بن عبد الدار(6).
وأخبرتنا أيضا بأن هذا الـ"أبو زمعة" لا وجود له في آباء أمية بن أبي الصلت عبد الله بن أبي ربيعة بن عوف بن عقدة بن عزة بن عوف بن ثقيف(7).
المؤامرة الهاشمية
وحتى لا نطيل فنحن لن نجعل من هذه النقطة محلا لخلاف، فليكن "أبو زمعة" جدا لأمية، و"خويلد" هو رفيق الرحلة إلى اليمن -كما يريد د. القمني- بل ليكونا حليفين لعبد المطلب.
لأن د. القمني يريد أن يجمع الثلاثة: عبد المطلب (جد النبي)، وخويلد (والد السيدة خديجة "الأرملة الثرية") وأبو زمعة (جد أمية "الشاعر") في لقاء واحد بقصد الدليل على وجود تحالف بين الثلاثة، وليتمكن من مد هذه العلاقة إلى الخلف الثلاثة (محمد- خديجة-أمية) وتحميل الحفيد الهاشمي (محمد) مسئولية تغيير جوهرها من علاقة تحالفية إلى علاقة تكتيكية وأحيانا تآمرية.
فعند د. القمني أن الحفيد الهاشمي الفقير وجد أنه ليبدأ في تنفيذ خطة جده "المرسومة والمدروسة والمنظمة"، والتي من وسائلها الدين (...) والمال كان يحتاج إلى مصدر "ثروي" يوفر له "الوقت الكافي والاطمئنان النفسي للانصراف من السعي وراء الرزق إلى التفكير في شئون قومه السياسية والدينية"(8).
فتزوج "الأرملة الثرية التي تكبره بنحو خمس عشرة سنة" (خديجة بنت خويلد) بعد خداع والدها وتغييبه عن الوعي (بالخمر) لانتزاع موافقته التي تنكر لها بمجرد استيقاظه، ووصل الأمر بالأب (المخدوع) إلى حد التظاهر ضد هذا الزواج في شوارع مكة، وبثقة -وتحديدا لتأكيد الخداع المحمدي- أشار الدكتور (الماركسي) إلى نقله لهذه المعلومة عن كتاب "البداية والنهاية" لابن كثير!!
وبالفعل.. بالرجوع إلى مرجع د. القمني وجدنا هذه المعلومة (الرواية)، ولكن ما وجدناه أيضًا وأخفاه د. القمني بقصد أن هذه رواية ضمن روايات "جمعها" ابن كثير ليرجح عليها رواية أخيرة هذا نصها، قال المؤملي:
المجمع عليه أن عم خديجة عمرو بن أسد (وليس والدها) هو الذي زوجها محمدا، وهذا (في رأي ابن كثير) هو الذي رجحه السهلي وحكاه (رواه) عن ابن عباس وعائشة قالت: وكان خويلد مات قبل (حرب) الفجار"(9). أي قبل زواج محمد من خديجة بخمس سنوات.
ونحن لن نسأل الدكتور عن علة امتناعه عن الإشارة إلى وجود روايات أخرى؟ أو عن المانع العلمي الذي حال بينه وبين القيام بواجبه كباحث إزاء الروايات المتناقضة؟ لأن الدكتور في تقديري أراد تثبيت رواية الخداع على أنها رواية وحيدة ومتواترة، ولا يوجد ما يناقضها ليسهل عليه (كماركسي) الإيحاء بتخفف الحفيد الهاشمي من العبء الأخلاقي، والذهاب بعقولنا -كقراءة له- إلى أن هذا الحفيد بعد عثوره على المصدر "الثروي" في "الأرملة الثرية" (بنت خويلد حليف عبد المطلب ورفيقه في رحلة اليمن) بدأ "يتابع خطوات جده" لتحقيق نبوته بالوحي، وهي -عند د. القمني- خطوات قادت الحفيد إلى عثوره على "مصدر شعري" للوحي في شعر أمية بن أبي الصلت (حفيد أبو زمعة حليف عبد المطلب ورفيق رحلته إلى اليمن).
القرآن مسروق
وهذا يقودنا إلى قراءة أهم ما ساقه د. القمني للتدليل على صواب موقفه "المادي" عن القرآن:
ونبدأ بما قاله عن صاحب "المصدر الشعري": "هو أمية بن عبد الله بن أبي الصلت الذي تصله أمة رقية بنت عبد شمس بن عبد مناف ببيت عبد مناف بن قصي"(10).، وجده أبو زمعة حليف عبد المطلب بن هاشم.
وبجانب النسب والتحالف استطاع "رغم تنافس الحنفاء" أن يحتل مكانة بارزة كواحد من "تلامذة الحنيفية الكبار" بعد عبد المطلب "أستاذ الحنيفية الأول" وزيد بن عمرو بن نفيل الذي "يعد ثاني الرواد الحنيفين أثرا وأكثرهم خطرا بعد عبد المطلب".
و "حرم (أمية) على نفسه الخمر وتجنب الأصنام، وصام والتمس الدين، وذكر إبراهيم وإسماعيل، وكان أول من أشاع بين القرشيين افتتاح الكتب والمعاهدات والمراسلات بعبارة:
باسمك اللهم -استعملها النبي محمد ثم تركها واستعمل بسم الله الرحمن الرحيم- وقد روى الإخباريون قصصا عن التقاء أمية بالرهبان وتوسمهم فيه أمارات النبوة وعن هبوط كائنات مجنحة شقت قلبه ثم نطفته وطهرته تهيئة لمنحه النبوة"(11).
و"يعتبر أمية أحسن الحنفاء حظا في بقاء الذكر، فقد بقي كثير من شعره، وحفظ قسط لا بأس به من أخباره، وسبب ذلك (ينقل د. القمني عن د. جواد علي بتحريف!!) هو بقاؤه إلى ما بعد البعثة واتصاله بتاريخ النبوة والإسلام اتصالا مباشرا وملاءمة شعره بوجه عام لروح الإسلام، برغم أنه حضر البعثة ولم يسلم، ولم يرض بالدخول في الإسلام؛ لأنه يأمل أن تكون له النبوة ويكون مختار الأمة وموحدها، ولذلك برز كنموذج للاستقامة والإيمان، والتطهر، والزهد، والتعبد، ومات سنة تسع للهجرة بالطائف كافرا بالأوثان وبالإسلام"(12).
بجانب ما سبق.. فأمية -عند د. القمني- ليس كأي فرد (قاعدي) في تيار الحنفاء، لكنه واحد من أهم مجتهديهم لاستطاعته -بتفرد- نحت قاموسه الشعري / اللغوي الذي مكنه باقتدار من صياغة تعاليم "ملة عبد المطلب" (الحنيفية)، لذلك ينقل الدكتور بانبهار من شعر أمية حول عقيدته في البعث والحساب:
باتت همومي تسري طوارقها أكنى عيني والدمع سابقها
من أتاني من اليقين ولم أوت برأة يقصي ناطقها
أم من تلظى عليه واقدة النـ ـار محيط بهم سرادقها
أم أسكن الجنة التي وعد الأبـ ـرار مصفوفة نمارقها
وفي رب الحنيفية، ينقل:
إله العالمين وكل أرض ورب الراسيات من الجبال
بناها وابتنى سبعا شدادا بلا عمد يرين ولا صال
وعن عذاب الدار الآخرة، ينقل:
وسيق المجرمون وهم عراة إلى ذات المقامع والنكال
فنادجوا ويلنا ويلا طويلا وعجوا في سلاسلها الطوال
فليسوا ميتين فيستريحوا وكلهم بحر النار صالي
وحل المتقون بدار صدق وعيش ناعم تحت الظلال(13).
وبدون أن يكاشف قارئه بدوافع انبهاره بشعر أمية، وهل عاش -كباحث- القلق العلمي بمراحل شكه وسؤاله، وبحثه المحايد، والموضوعي في آراء العلماء في شعر أمية والحنفاء لنرى هل انبهاره نتيجة بحث أم نتيجة لدوافع إيديولوجية؟ لم يرد د. القمني ضرورة علمية لهذه المكاشفة، واكتفى بتقديم هذه الأشعار بقوله: "ليلحظ قارئنا أننا نستند هنا في أمر هذا الشعر إلى مصادره الأصلية، إضافة إلى العودة إلى حل مسألة الانتحال فيه والأخذ بما انتهى الباحثون تأكيده غير منحول، فهي مهمة لها رجالها المتخصصون، وإليهم مرجعنا في هذا الأمر"(14).
ليوحي بأن شعر أمية خارج المناقشة، وأن "عدم انتحاله" هو الرأي الذي انتهى إليه أهل الاختصاص، وذلك بغرض تأهيل عقل قارئه لتلقي ما سينقله عن د. جواد علي "في أكثر ما نسب إلى هذا الشاعر من آراء ومعتقدات، ووصف ليوم القيامة والجنة والنار، تشابه كبير وتطابق في الرأي جملة وتفصيلا لما ورد عنها في القرآن الكريم، بل نجد في شعر أمية، استخداما لألفاظ وتراكيب واردة في كتاب الله والحديث النبوي قبل المبعث، فلا يمكن -بالطبع- أن يكون أمية قد اقتبس من القرآن؛ لأنه لم يكن منزلا يومئذ".
"وأما بعد السنة التاسعة الهجرية فلا يمكن أن يكون قد اقتبس منه أيضا؛ لأنه لم يكن حيا فلم يشهد بقية الوحي، ولن يكون هذا الفرض مقبولا في هذه الحال، ثم إن أحدا من الرواة لم يذكر أن أمية ينتحل معاني القرآن وينسبها لنفسه، ولو كان قد فعل لما سكت المسلمون عن ذلك، ولكان الرسول أول الفاضحين له".
ويضيف د. القمني: "وهذا أيضا مع رفض أن يكون شعره منحولا أو موضوعا من قبل المسلمين المتأخرين؛ لأن في ذلك تكريما لأمية وارتفاعا بشأنه، وهو ما لا يقبل مع رجل كان يهجو نبي الإسلام بشعره، ولا يبقى (في رأي د. القمني) سوى أنه (أمية) كان حنيفيا مجتهدا استطاع أن يجمع من قصص عصره، وما كان عليه الحنفاء من رأي في شعره خاصة مع ما قاله بشأنه ابن كثير:
وقيل إنه كان مستقيما، وإنه كان أول أمره (في الجاهلية) على الإيمان، ثم زاغ عنه (بعد الإسلام)، ولا ريب (الكلام للقمني) أن الاستقامة تفرز الاستقامة وتلتقيها، وربما كتب (أمية) ما كتب إبان هذه الفترة التي حددها ابن كثير، ولا ريب أنها كانت قبل البعثة النبوية؛ لأنه بعدها -ولا شك- زاغ عن إيمانه واستقامته، إذ رأى الملك والنبوة تخرج من بين يديه بعد أن أعد نفسه لها طويلا"(15).
هذا بالنص ما قاله د. القمني عن أمية بن أبي الصلت، وما قاله يحاصر عقل القارئ بأن أمية أولا "برز كنموذج للاستقامة والإيمان، والتطهر، والزهد، والتعبد".
ثانيا: أنه كان حنيفيا مجتهدا استطاع -بجهده الفذ- أن يكتب ما كتب من أشعار.
ثالثا: أن ما نقله من شعر أمية "غير موضوع".
رابعا: أن ما كتبه أمية "والذي جاء مطابقا لما ورد في القرآن" كتبه قبل البعثة النبوية، أي قبل نزول القرآن، ربما بسنوات، وكل هذا -كما نرى- يحصر عقل القارئ في دائرة التسليم بالاحتمال المسكوت عنه، وهو استعانة النبي محمد بشعر أمية في كتابة قرآنه.
ونكرر نحن لسنا ضد حق د. القمني في ممارسة الشك، وأن يصل شكه (كماركسي-مادي) إلى حد التشكيك في القرآن، وإلى حد طرح شعر أمية كمنبع جاهلي لكتاب الإسلام المقدس، فالدكتور في شكه في المنبع الإلهي للقرآن لم يكن الأول ولن يكون الأخير، لكن الفارق بينه وبين غيره من المستشرقين الذين اتفق معهم في نفي إلهية القرآن وإثبات بشريته أنهم طرحوا كل الاحتمالات على بساط البحث وناقشوا أدلة كل احتمال وخرجوا برأي يميل إلى أخذ محمد قرآنه من شعر أمية، وصاغوا هذه النتيجة في أسلوب واضح ومعبر بدقة عن مقصودهم، بحيث لا يحتمل تأويلا أو معنى آخر غير الذي قصدوه، ومن هؤلاء المستشرقين كليهان هوار، بور، فردرش شولتيس.
وبوضوحهم أتاحوا للعلماء العرب فرصة مراجعة هذا الرأي ونقده، ومن أشهر العلماء العرب الذين نقدوا هذا الرأي الاستشراقي د. طه حسين في كتابه "في الشعر الجاهلي"، ود. شوقي ضيف في كتابه "تاريخ الأدب العربي"، المجلد الأول "العصر الجاهلي"، ود. جواد في موسوعته "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام".
أما د. القمني فقد ناقش بتوسع ونفى بيقين شبهة استعانة أمية بالقرآن، وسكت بلا مبرر منطقي أو علمي أو أخلاقي عن استكمال بحث شبهة استعانة محمد بشعر أمية، واكتفى بقوله "ليس من الضروري أن أستنتج، ولكن القارئ يمكن أن يسنتج ما أنتهى إليه، وبالتالي أعتمد كثيرا على القارئ في استنتاج كثير من النتائج"(16).
وحسب هذا القول فأبسط العقول ذكاء تستنتج من نفي الاحتمال الأول إثباتا للاحتمال الثاني، وهو أن الحفيد الهاشمي "محمد" استعان بشعر أمية، واقتبس منه تراكيبه وألفاظه، وادعى أن ما اقتبسه هو وحي الله إليه.
الحرام العلمي
هنا، ولأن د. القمني -كما مر بنا- في سبيل تأكيد حقيقة الصراع الهاشمي الأموي اقترف كل أنواع الحرام العلمي بدءا بتزوير وتحريف النصوص التراثية لإجبارها على أن تقول بحقيقة وتاريخية "ملة عبد المطلب" و"الإيديولوجيا الهاشمية" و"أهداف الحزب الهاشمي"، فإذا كان النبي محمد هو -كما يريد د. القمني- الحفيد الهاشمي الملتزم بخطط جده وأهداف حزبه، فأمية بن أبي الصلت (الشاعر) هو -كما صرح د. القمني- ابن رقية بنت عبد شمس بن عبد مناف، و"خاله" أمية بن عبد شمس الذي قاد الصراع الأموي ضد الحزب الهاشمي!!
أي أنه (الشاعر أمية) واحد من "كوادر" الحزب الأموي، ولأنه كذلك فقد فضل الكفر على الإسلام بسبب علاقته بسادات الحزب الأموي(17).
وعليه، فإذا صدقنا حجة د. القمني في نفي الاحتمال الأول: أن أمية لو كان ينتحل معاني القرآن وينسبها لنفسه "لما سكت المسلمون على ذلك، ولكان الرسول (الحفيد الهاشمي) أول الفاضحين له"، وهي حجة قوية، ولخصوصية علاقة أمية بالحزب الأموي فالعقل والمنطق و"ألف باء" بحث علمي كانوا يفرضون على الدكتور )العلماني حتى النخاع) بحث الاحتمال الثاني لكشف موقف أمية وحزب أخواله الأمويين من الحفيد الهاشمي الذي -حسب الاحتمال المسكوت عنه- يستعين بأشعار ابن أختهم في كتابة قرآنه، وهل سكت أمية على ما فعله محمد الهاشمي؟ وهل سكت الحزب الأموي وضحى بهذه الفرصة لإجهاض الخطط الهاشمية بكشف المنبع الأموي للقرآن؟!
كان يجب -علميا ومنطقيا- على د. القمني بحث هذه الجزئية الخطيرة، والتنقيب في كتب التراث عن وقائع ترصد موقف أمية والحزب الأموي، ولكن للأسف لم يرد القمني اقتحام هذه المنطقة لإنارتها، وفضل أن يتحسس القارئ ما سكت عنه الدكتور التنويري، ونحن أمام هذه الرغبة القمنية رجعنا إلى المراجع التاريخية للبحث والتنقيب عن الموقف الأموي (الشاعر والحزب) لنمسك بالموقف القمني.
أميه يرد على القمني
ونبدأ بموقف أمية الذي رواه ابن كثير، والذي لا نشك في علم د. القمني به، والذي أيضًا لا نشك في تجاهله المتعمد لهذه الواقعة التي تسجل اللقاء الوحيد -في حدود علمي- الذي جمع بين النبي محمد والشاعر أمية، فقد روى ابن كثير أن أمية لما قدم من البحرين إلى مدينته الطائف قال لأهلها: ما يقول محمد بن عبد الله؟ قالوا: يزعم أنه نبي، هو الذي كنت تتمنى، فخرج أمية حتى قدم مكة فلقيه، فقال: يا ابن عبد المطلب.. ما هذا الذي تقول؟
- رد الرسول أقول: إني رسول الله، وأن لا إله إلا الله.
- قال أمية: أريد أن أكلمك فعدني غدا.
- قال الرسول: فموعدك غدا.
- قال أمية: فتحب أن آتيك وحدي أو في جماعة من أصحابي، وتأتيني وحدك أو في جماعة من أصحابك؟
- فقال الرسول: أي ذلك شئت.
- قال أمية: فإني آتيك في جماعة فأتِ في جماعة.
فلما كان الغد غدا أمية في جماعة من قريش، وغدا رسول الله معه نفر من أصحابه حتى جلسوا في ظل الكعبة، فبدأ أمية فخطب، ثم سجع ثم أنشد الشعر (كل ذلك لإظهار قدراته وتعجيز النبي) حتى إذا فرغ الشعر قال أمية: أجبني يا ابن عبد المطلب، فقال رسول الله: بسم الله الرحمن الرحيم (يس والقرآن الحكيم...) حتى إذا فرغ منها وثب أمية يجر رجليه، فتبعته قريش يقولون: ما تقول يا أمية؟ قال: أشهد أنه على الحق(18).
هذا هو اللقاء الذي تجاهله د. القمني (ولم يجهله)، وأعتقد أن هذا الدكتور (الذي ينادي بإعادة ترتيب آيات وسور القرآن) بالتأكيد يعرف أن سورة "يس" التي تحدى بها النبي "خطابة" و"سجع" و"شعر" أمية تبلغ آياتها ثلاثا وثمانين آية، وأن الآية 69 تقول: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ).
والذي يمكننا فهمه من سياق رواية ابن كثير أن أمية استمع إلى هذه الآية من الرسول نفسه، ولم يكتشف (رغم كفره) ما اكتشفه الدكتور التنويري (رغم إسلامه) التشابه الكبير والتطابق في الرأي جملة وتفصيلا بين شعره والقرآن، لذلك شهد أمية -أمام الجماعة التي رافقته من قريش (وربما من الحزب الأموي)- بأن محمدا "على الحق".
ليس هذا فقط، بل الثابت أيضا أن أمية بعد سبع سنوات من هذا اللقاء وهذه الشهادة ذهب ليعلن إسلامه، ولكن بعض أهل مكة علموا بمسيره فأرادوا رده عن غايته ليس بكشفهم له استعانة الحفيد الهاشمي بشعره وإنما بإحياء العصبية الجاهلية في قلبه، وتذكيره بمن قتل في غزوة بدر من زعماء الحزب الأموي(19).
وما تجاهله د. القمني -ونقلناه هنا- يضع عقولنا على حقيقة أن هذا الدكتور -للأسف- لم يحركه العلم للبحث عن حقيقة، وإنما تحرك وحركه هدف واحد ووحيد هو التشكيك في فكرة الوحي "الغيبية" لتناقضها مع "ماديته"؛ لذلك لم يكتف بتجاهل معلومة تاريخية كانت -على الأقل- كفيلة بترشيد رأيه، لكنه -وبقصد- اقترف جريمة تحريف نصوص مرجعه ليوهم القارئ بأن "د. جواد علي" يشاركه هذا الرأي "المادي" في القرآن.
هنا، ولأن د. جواد علي يعد واحدا من أهم العلماء العرب الذين نقضوا هذا الرأي بعمق وحياد وموضوعية العالم الباحث عن الحقيقة، وأفرد لمناقشة هذه الشبهة الاستشراقية عشرات الصفحات في عمله الموسوعي عن تاريخ العرب قبل الإسلام، فنحن سنحاول نقل بعض ما كتبه في فصل "الحنفاء" لنقارنه بما نقله د. القمني.
يقول د. جواد: "في أكثر ما نسب إلى هذا الشاعر (أمية بن أبي الصلت) من آراء ومعتقدات دينية ووصف ليوم القيامة والجنة والنار تشابه كبير وتطابق في الرأي جملة وتفصيلا لما ورد عنها في القرآن الكريم.
بل نجد في شعر أمية استخداما لألفاظ وتراكيب واردة في كتاب الله وفي الحديث النبوي، فكيف وقع ذلك؟ وكيف حدث هذا التشابه؟ هل حدث ذلك على سبيل الاتفاق، أو أن أمية أخذ مادته من القرآن الكريم؟ أو كان العكس، أي أن القرآن الكريم هو الذي أخذ من شعر أمية فظهرت الأفكار والألفاظ التي استعملها أمية في آيات الله وسوره؟
فكتاب الله إذن هو صدى وترديد لآراء ذلك الشاعر (...) أو أن كل شيء من هذا الذي نذكره ونفترضه افتراضا لم يقع، وإن ما وقع ونشاهده سببه أن هذا الشعر وضع على لسان أمية في الإسلام، وأن واضعيه حاكوا في ذلك ما جاء في القرآن الكريم، فحدث لهذا السبب هذا التشابه؟".
بعد طرح تساؤلاته بدأ د. جواد بهدوء العالم في مناقشة هذه الاحتمالات، فقال عن الاحتمال الأول: "وهو فرض أخذ أمية من القرآن، فهو احتمال إن قلنا بجوازه ووقوعه، وجب حصر هذا الجواز في مدة معينة، وفي فترة محدودة تبتدئ بمبعث الرسول وتنتهي في السنة التاسعة من الهجرة، وهي سنة وفاة أمية بن أبي الصلت.
أما ما قبل المبعث فلا يمكن بالطبع أن يكون أمية قد اقتبس من القرآن؛ لأنه لم يكن منزلا يومئذ، وأما بعد السنة التاسعة فلا يمكن أن يكون هذا الفرض مقبولا معقولا في هذه الحالة، إلا إذا أثبتنا بصورة جازمة أن شعر أمية الموافق لمبادئ الإسلام، ولما جاء في القرآن قد نظم في هذه المدة المذكورة، أي بين المبعث والسنة التاسعة من الهجرة (...)
ولكن من في استطاعته تثبيت تواريخ شعر أمية وتعيينه، وتعيين أوقات نظمه؟ إن في استطاعتنا تعيين بعضه من مثل الشعر الذي قاله في مدح عبد الله بن جدعان أو معركة بدر، ولكننا لا نستطيع أن نفعل ذلك بالغالبية منه، وهي غالبية لم يتطرق الرواه إلى ذكر المناسبات التي قيلت فيها.
ثم إن بعض هذا الكثير مدسوس عليه مروي لغيره، وبعضه إسلامي فيه مصطلحات لم تعرف إلا في الإسلام، فليس من الممكن الحكم على آراء أمية الممثلة في مصطلحات لم تعرف إلا في الإسلام، فليس من الممكن الحكم على آراء أمية الممثلة في شعره هذا بهذه الطريقة.
ثم إن أحدا من الرواة لم يذكر أن أمية كان ينتحل معاني القرآن الكريم وينسبها إلى نفسه، ولو كان قد فعل لما سكت المسلمون عن ذلك، ولكان الرسول أول الفاضحين له".
وبعد نفيه احتمال أخذ أمية من القرآن يقول د. جواد: "يبقى لدينا افتراض آخر هو أخذ القرآن الكريم من أمية، وهو افتراض ليس من الممكن تصوره، فعلى قائله إثبات أن شعر أمية في هذا الباب هو أقدم عهدا من القرآن، وتلك قضية لا يمكن إثباتها أبدا.
ثم إن قريشا ومن لف لفها ممن عارضوا الرسول لو كانوا يعلمون ذلك ويعرفونه لما سكتوا عنه، ولقالوا له: إنك تأخذ من أمية كما قالوا له: إنك تأخذ من غلام نصراني كان مقيما بمكة، وإليه أشير في القرآن بقوله: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ) (...) ولم يشيروا إلى أمية بن أبي الصلت.
ثم إن أمية نفسه لو كان يعلم ذلك أو يظن أن محمدا إنما أخذ منه لما سكت عنه، وهو خصم له ومنافس عنيد أراد أن تكون النبوة له، وإذا بها عند شخص آخر ينزل الوحي عليه، ثم يتبعه الناس فيؤمنون بدعوته، أما هو فلا يتبعه أحد، هل يعقل سكوت أمية لو كان قد وجد أي -وإن كان بعيدا- يفيد أن الرسول قد أخذ فكره منه؟ لو كان شعر أمية بذلك لنادى به حتما"(20).
ويؤكد د. جواد: "أما أنا فأرى أن مرد هذا التشابه والاتفاق إلى الصنعة والافتعال، لقد كان أمية شاعرا، ما في ذلك شك، لإجماع الرواة على القول به، وقد كان ثائرا على قومه ناقما عليهم لتعبدهم للأوثان، وقد كان على شيء من التوحيد والمعرفة باليهودية والنصرانية.
ولكني لا أظن أنه كان واقفا على كل التفاصيل المذكورة في القرآن وفي الحديث عن العرش والكرسي، وعن الله وملائكته، وعن القيامة والجنة والنار، والحساب والثواب والعقاب ونحو ذلك، إن هذا الذي أذكره شيء إسلامي خالص، لم ترد تفاصيله عند اليهود ولا النصارى، ولا عند الأحناف، فوروده في شعر أمية، وبالكلمات والتعابير الإسلامية، هو عمل جماعة فعلته في عهد الإسلام ووضعته على لسانه.
وكما وضعوا أو وضع غيرهم في شعر أمية في عدم اتساقه، وفي اختلاف أسلوبه وروحه، فبينما نجد شعره بالدين في ديباجة جاهلية على نسق الشعر المنسوب إلى شعراء الجاهلية، نجد القسم الديني منه والحكمي في أسلوب بعيد عن هذا الأسلوب وبعيد عن الأساليب المعروفة عن الجاهليين، أسلوب يجعله قريبا من شعر الفقهاء والصوفيين المتزمتين"، ويقول: "وأثر الوضع على بعض شعر أمية واضح ظاهر لا يحتاج إلى دليل، وهو وضع يثبت أن صاحبه لم يكن يتقن له صنعة الوضح جيدا"(21).
هذا بعض ما قاله د. جواد علي، وسكت د. القمني عن نقله بقصد التشكيك في المصدر الإلهي للقرآن وإرجاعه إلى مصدر بشري (جاهلي) هو -كما يرى- الشعر المنسوب لأمية بن أبي الصلت، ونحن لسنا ضد حق د. القمني (المادي) في أن يذهب هذا المذهب، وأن يشارك المستشرقين رأيهم في القرآن، فالدكتور ربما فعله كان يتسق تماما مع "ماديته" الفلسفية، ولكننا ضد توسله بالكذب والتحريف، والتحوير، والتزييف، والتقول على المراجع التاريخية، بما لا تقوله لإجبارها على أن تقول بما يريده كمادي.
وما انتهينا إليه يعيدينا بقوة إلى ما قاله د. القمني -ونقلناه- إن كتب السير "لم تذكر أن الوحي نزل على زيد بن ثابت ولجنته ليرتبوا آيات وسور القرآن على شكلها"، وإن بقاء "الحال دون أي محاولة لإعادة النظر واتباع طريقة علمية في ترتيب آيات وسور المصحف" كان "عن قصد مبيت" لـ "إكساب الشكل قدسية المضمون، مع إغلاقه بالضبة ووضع المفتاح بيد فقهاء السلطان"، فقد وجد الدكتور أنه "لا سبيل سوى أن نتحرك نحن لنرتب ما بأيدينا (من قرآن) وفهمه (بعد إعادة ترتيب آياته وسوره) وفق ظرفنا الآني"!!
ولأن الدكتور حتى الآن اكتفى بإطلاق دعوته، وتوقف عن "التحرك" لإنجازها وتركنا كقراء له لا نعرف سبب توقفه عن إنجاز هذا الترتيب الذي سيضع اسمه إلى جانب أسماء "فايل" و"نولديكي" و"شقالي" و"بلاشير".. إلخ، هل لأنه حتى الآن لم يوفق في سرقة "المفتاح" من "يد فقهاء السلطان" ليبدأ في تكسير باب "قدسية الشكل" القرآني؟ أم لأنه حتى الآن لم يستقر على تفضيل وتبني ترتيب واحد من الترتيبات الاستشراقية لسور القرآن؟ أم لأنه حتى الآن ينتظر أن يخصه الوحي بالنزول عليه، وتمكينه من إنجاز هذا الترتيب؟
فحتى يأتينا الدكتور بإجابات جادة عن هذه التساؤلات أستطيع القول إنه في كل كتاباته المنشورة تعمد "تشغيل القرآن ورب القرآن" لإجبارهما على منح "شهادات الشرعية" لموقفه "المادي"، وللدقة، "المعادي" لنبي القرآن، وهذه "بعض"، أكرر "بعض" أدلتي.
(1) مجلة الأدب- أدب ونقد- العدد 201- ص 34 / 35.
(2) د. القمني "الحزب الهاشمي" دار سينا- ص 45.
(3) ابن منظور- لسان العرب- دار المعارف- ج 6، ص 4516.
(4) د. القمني- المرجع السابق- ص 43.
(5) نفس المرجع- ص 49- وراجع ابن كثير- "البداية والنهاية" جـ2 ص 258، والطبري "تاريخ الأمم والملوك" دار الريان- ج 1، ص 505.
(6) البيهقي "دلائل النبوة" دار الكتب العلمية- جـ 2، ص 9، والإمام الصالحي- "سبل الهدي والرشاد" المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، جـ 1، ص 146.
(7) ابن كثير- جـ 2، ص 225.
(8) د. القمني- المرجع السابق- ص 79.
(9) نفس المرجع ص 80- وقارن ابن كثير- جـ 2، ص 299.
(10) القمني- نفس المرجع- طبعة مجلة "مصرية" العدد التاسع- أكتوبر 1986م، ص 15- ومجلة "الكرمل" (الفلسطينية)- العدد 31 لسنة 1989م، ص 48، وطبعة دار سينا- ص 69- د. القمني- الإسلاميات" ص 63.
(11) نفس المرجع والصفحات.
(12) نفس المرجع- "مصرية" ص 16- "الكرمل" ص 48- ودار سينا ص 69، والإسلاميات ص 65.
(13) نفس المرجع- مصرية ص 16-17، والكرمل ص 48، وسينا ص 69 / 70، والإسلاميات ص 64/65/66.
(14) نفس المرجع- دار سينا- ص 67، والإسلاميات ص 61.
(15) نفس المرجع- مصرية ص 47/18ـ والكرمل ص 49، وسينا ص 73/74، والإسلاميات ص 68/69.
(16) د. القمني- ته مما نسب إليه من اتهامات فور "الأسطورة والتراث" طبعة دار سينا ص 281.
(17) د. القمني- الحزب الهاشمي- دار سينا ص 70.
(18) ابن كثير- جـ 2 ص 230.
(19) ابن هشام- السيرة النبوية- المكتبة التوفيقية- جـ 2 ص 633.
(20) د. جواد علي- المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام- جـ 6، ص 490 / 492.
(
21) نفس المرجع- جـ 6، ص 497.